قصص قصيرة
محمد شوكت الملطإهداء
إلى
كل شاب لا يرضى بالقهر ولا بالذُل
إلى
كل شاب يرفض الإستسلام أو التراجع
إلى
كل شاب يرغب فى مستقبل باهر لنفسه
إلى
كل شاب يعمل من أجل أمته
أهدى
هذا الكتاب
محمد
شوكت الملط
المقدمة
الحمد لله رب العالمين،
وأفضل الصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه اجمعين، ومن تبعهم بإحسان إلى
يوم الدين.
وبعد
لا شك أن الغاية
من قراءة القصص هو الامتاع والفائدة، وكما قيل : اذا كانت القراءة سلوة الإمتاع فالقصة
بالخصوص هي الإمتاع كله،
أماالفائدة فلا تكون
الا بأخذ العبر والعظات، وإلا فما تحققت هذه الفائدة.
ونحن فى هذه المجموعة
القصصية ( اليد العليا ) نعرض عدد عشر قصص قصيرة، كل قصة كُتبت فى عشر صفحات تقريبا.
تحكى هذه المجموعة
القصصية قصصا حقيقية، مُزجت بقليل من الخيال، أبطالها العشر ربما يعيشون بيننا، وربما
ماتوا، ولكن آثارهم باقية، صورهم لا تغيب عن العقول، وهى منقوشة فى القلوب، لأنهم لم
يستسلموا للياس ولا للإحباط، قاوموا الظروف القاسية والتحديات الهائلة، فحققوا نجاحات
لم يقدر على تحقيقها كثير من الناس، كانت لديهم امكانيات أكثر منهم، وظروف أفضل منهم.
القصص التى احتوتها
هذه المجموعة، أبطالها من شرائح مختلفة، من الشباب ومن الكبار، من الرجال ومن النساء،
من المدن ومن القرى، حتى تتحقق الغاية منها، فما لم يجده القارىء فى قصة يجده فى الأخرى.
كُتبت هذه القصص
ليطلع عليها عموم الناس، وبالأخص شريحة الشباب من الجنسين، فلا أحد يستطيع أن أهمية
الشباب، ولعلنا لا نغفل قول الله في أهل الكهف : ﴿ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آَمَنُوا بِرَبِّهِمْ
وَزِدْنَاهُمْ هُدىً ﴾ فدور الشباب في أوطاننا هو الدور الأكبر، فهم اللذين صنعوا الثورات
المجيدة، التى أذهلت شعوب العالم من حولنا.
وفى الوقت ذاته لا
يمكن لأحد أن يغفل ما يعانيه شبابنا فى عصرنا هذا، لرفع معنوياتهم والعمل على تثبيتهم،وحثهم
على أن يراجع كل منهم نفسه، ويقف معها وقفة، ليعرف كل منهم قيمته وحقيقة مكانته، ليستطيعوا
جميعاً تحمل مسئولياتهم فى هذه الحياة، ويعملوا جاهدين من أجل إعادة مجد أمتهم التليد.
والله من وراء القصد
وهو يهدى السبيل.
المؤلف
محمد شوكت الملط
القطاوية- أبوحماد
– شرقية - مصر
فى: 25/4/2011
Msh_malt2011@yahoo.com
"1"الأم المُلهمة
مرضت أم "إيهاب"
طالب الطب فى السنة الرابعة، وبعد الكشف والفحوصات والتحاليل لدى كبار الأطباء فى المستشفيات
الشهيرة، علم إيهاب أن أمه مريضة بنوع من الأمراض النادرة، تصل نسبة الإصابة به إلى
نصف فى المليون من الأفراد، قال له الأطباء : إن احتمال الشفاء ضعيف جدا، وربما تفارق
الحياة خلال بضعة أشهر.
منذ صغره كان
"إيهاب" ذا إيمان قوى محافظا على صلواته، وورده القرآنى، فضلا عن تفوقه العلمى،
أرجع الأمر لله، لأنه متيقن أن الموت والحياة والرزق والمرض والشفاء، كل هذا وغيره
فى الوجود بيد الله سبحانه وتعالى، لكنه حدث نفسه : لما لا آخذ بالأسباب ؟، أحاول قدر
استطاعتى البحث عن العلاج.
اعتاد "إيهاب"
على اصطحاب أمه المريضة بعد عودته من الكلية، إلى المستشفيات ومعامل التحاليل ومراكز
الإشعة،يتابع النتائج أولا بأول، يدخل على المواقع الطبية المتخصصة على شبكة الإنترنت،
يرسل الرسائل والإستفسارات والأسئلة، يتلقى الإجابات والمعلومات.
كان "إيهاب"
يمكث كثيرا من الأوقات يقلب الكتب والمراجع الكبرى باحثا عن أى معلومة، ولو كانت صغيرة
عن هذا المرض، يتحاور مع الأساتذة، يعرض عليهم ما توصل إليه، يقترح عليهم بعض الأدوية
لتتناولها أمه.
على غير المعتاد،
الأطباء الكبار والأستاذة المتخصصون يستمعون إلى المعلومات التى توصل إليها "إيهاب"
بانبهار وإعجاب، أجمعوا فيما بينهم أن هذه المعلومات لا يعرفها من هو أقل من درجة أستاذ
فى كليات الطب.
لم ينسَ "إيهاب"
الجانب النفسى،يطمئن أمه،يهدىء من روعها، يبث فيها الأمل والثقة فى الله، والصبر على
المرض، يذكرها بان كل ذلك فى ميزان حسناتها، مرت الأشهر ولم تمت أمه، ومرت ثلاث سنوات
كانت حالتها متقلبة بين الراحة فى كثير من الأوقات والألم فى بعضها، إلى أن استقرت
حالتها.
فى تلك الفترة، كانت
الأم تتحرك داخل البيت، يزورها الأقارب والأصدقاء، من حين لآخر، لم تكن تتحدث معهم
الا عن عبقرية ابنها، الذى لا تناديه الا بالكتور "إيهاب"، وكان يرد عليها
: يا أمى..أنا مازلت طالبا بكلية الطب، أكثرى من الدعاء لكى أكون طبيبا ناجحا، طالما
كانت تحكى للزوار ما كانت تسمعه من مناقشات وحوارات، كانت تتم بين "إيهاب"
والأطباء فى معامل التحاليل، ومراكز الإشعة، فى العيادات، والتى عادة ما كانت تنتهى
بعبارات الثناء والمدح والإعجاب، لدرجة أنها أحيانا كان يلهيها حديثها الذى لا ينقطع
متفاخرة بابنها عن مواعيد تناول الدواء.
كان حديثها الممتد
عن ابنها "إيهاب" بمثابة دعاية له، فكثيراً ما كان يأتى الزوار يسألونه،
ويستشيرونه عن حالات مرضية، فيرفض، ويذكرهم بأنه لم يزل طالبا فى كلية الطب، ويحيلهم
إلى الأطباء.
بانتشار أخبار
"إيهاب"، وما قام به من أبحاث محاولاً التوصل إلى علاج لحالة أمه، تزاحمت
عليه القنوات الفضائية والصحف والمجلات، كان يتحدث إلى وسائل الإعلام بكل ثقة وتواضع
عن كل ما توصل إليه من معلومات وأبحاث، ويُرجع الفضل لأصحاب الفضل عليه – بعد الله-،
وهم أساتذته بكلية الطب، الأمر الذى زاده إحتراما وتقديرا فى نظرهم.
لم يتخلف "إيهاب"
عن أى محاضرة أو "سكشن" فى الكلية رغم كل ما حدث، فلم يتغير فى التعامل مع
أحد من زملائه، ولم تعالَ عليهم، أو يتفاخر أمامهم،فازدادوا حباً له، وقرباً منه.
أنهى " إيهاب
" دراسته وتحصل على شهادة البكالوريوس بتقدير ممتاز، هُرع إليه الأستاذة ومعهم
عميد الكلية يطلبون منه أن يوافق على أن يعين معيدا فى كليتهم، بدلا من أن تتلقفه احدى
الدول الغربية، سرعان ما حصل على الماجستير ثم الدكتوراة، متخصصا فى المرض الذى أصيبت
به أمه، بعدما تيسرت أحواله وذاع صيته، افتتح مستشفى لعلاج المرضى المصابين بمرض أمه،
مقابل مبالغ زهيدة، وفاءً لأمه وحباً فيها.
"2"فرصة أخيرة
فى إحدى الصفحات
الداخلية لجريدة الصباح، قرأ "ماجد" تحقيقا صحفيا عن مأساة مواطن،مصاب بالفشل
الكُلوى منذ خمس سنوات،يعانى من مشقة السفر الطويل ثلاث مرات أسبوعيا.
هذا المواطن يسافر
إلى المستشفى التى تبعد عن محل إقامته مسافة خمسين ميلا على طريق غير مُعبد، يجرى عملية
الغسيل الكُلوى،تكاليف السفر والعلاج هائلة، مقابل دخل بسيط للمريض، الذى صرح للصحيفة
أنه لايقدر على استكمال العلاج، وربما يقرر قريبا استسلامه للمرض والتوقف عن الذهاب
للمستشفى، أمله الوحيد أن يجد من يتبرع له بكُليته مقابل مبلغ مائة الف جنيه،سوف يعطيه
له بعد أن يبيع قطعة الأرض، التى ليس له من حُطام الدنيا سواها،فى نهاية التحقيق الصحفى
ذكرت الصحيفة عنوان المريض ورقم هاتفه.
أثرت فى "ماجد"
مأساة ذلك المريض، وما يعانيه من آلام بدنية ونفسية، ذكرته هذه المأساة بمأساته التى
يعيشها، إنه يعيش عيشة ضنكا، فيها إعراض عن ذكر الله، مليئة بالذنوب و الآثام والمعاصى.
لم يفكر يوما فى
أن يقوم بأى عمل من أعمال الخير، دائما متمرد على الفطرة، فى الألفاظ التى تخرج مِن
فِيه، تصرفاته،سلوكياته،ردود أفعاله.
فى تلك اللحظة فكر
فى أحواله السيئة، التى لا ترضى الله، بلغ من العمر خمسة وثلاثين عاما، أنعم عليه الله
بجسم قوى خالٍ من الأمراض و بعضلات مفتولة، لا يغلبه أقوى المصارعين.
ولكنه لم يشكر الله
على هذه النعم، فاستغلها فى ممارسة الإجرام وتهديد الناس وابتزازهم، وإكراههم على دفع
مبالغ مالية كبيرة وإلا تعرضوا للضرب والإهانة منه ومن أصحابه، سكر وعربدة،وارتكاب
المنكرات فى السر والعلن، لايستحيى من العباد ولا من رب العباد.
سرت فى جسمه قشعريرة،تصبب
عرقا، سالت الدموع من عينيه بغزارة، إنها دموع التوبة.
لم ينسَ أول مرة
يسرق فيها، بعد أن حرضه اللص المخضرم فى المنطقة، على القيام بسرقة شقة، ذهب سكانها
إلى المصيف،فى الظلام الدامس دخل الشقة، كان مرتبكا، قلقا، خائفا، ولولا خوفه من عقاب
اللص المخضرم لعاد أدراجه، ولم يكمل عملية السرقة.
وبعد أن جمع المسروقات،
وحملها وشرع فى الخروج من الشقة، فوجىء بأصوات أصحاب الشقة وهم يفتحون بابها، ترك المسروقات،
فر هاربا.
حدث نفسه وهو يتذكر
هذه الواقعة : لقد خفت من الخلق، ولم أخفْ من الخالق، سترنى من الفضيحة ومن العقاب،
ولكننى لم أتعظ، ولم أتب.
رجعت بـ "ماجد"
ذاكرته إلى الماضى البعيد، يوم أن أمسك به ضابط الشرطة متلبسا بجريمة السرقة بالإكراه
لأحد الشخاص.
اصطحبه معه إلى مكتب
وكيل النيابة، وقف أمامه، أنكر الإتهام، كذَّب ضابط الشرطة، أقسم بأغلظ الأيمان أنه
لم يرتكب هذه الجريمة، اتهم ضابط الشرطة بأنه ألصق به تلك الجريمة انتقاما منه، لمواقف
سابقة بينهما، انطلى كلامه على وكيل النيابة، الذى لم يجد مفراً من اخلاء سبيله.
استطاع "ماجد"
أن يخدع شخص وكيل النيابة،لكنه لن يستطيع مخادعة رب العزة، يوم العرض عليه، تذكر هذه
الحقيقة، التى كانت غائبة عنه يومها.
أيقن"ماجد"
أنه لن يستطيع أن يعيش على هذه الحال، لن يتحمل وخز ضميره الذى لن يتوقف طالما لم يتغير،
أى مكروه سيصاب به أحد أبنائه، سيُرجعه إلى كثرة ذنوبه وخطاياه، التى أصابت العديد
من الناس، ومازلوا متأثيرين بها.
عاد "ماجد"
إلى التفكير فى المأساة التى قرأها فى الجريدة، تصور لو أنه هو الشخص المصاب، ويحتاج
إلى من يضحى من أجله باحدى كُليتيه، فجأة حضر هذا الشخص المنتظر، تصور نفسه وهو يطلب
منه أن ينفذ له ما يرغب من طلبات، مهما كان ثمنها.
حدث نفسه قائلا
: ولماذا لا أكون أنا الشخص المنتطر ؟
صمم على أن تكون
توبته مقترنة بعمل فيه تضحية، ولن يكون هناك عمل فيه تضحية، أفضل من التبرع بإحدى كُليتيه
إلى هذا المريض، وإذا كانت هذه الفرصة قد أتته الآن، فليس من السهولة بمكان أن تأتى
مرة أخرى، إنها فرصة ذهبية، فليستغلها قبل فوات الأوان.
أمسك بهاتفه واتصل
على رقم الهاتف المذكور، اشترط عليهم ألا يسالوا عن اسمه أوعنوانه، وألا يقدموا له
عِوضا ماليا أو أدبيا.
"3"يوم لا يُنسى
فى يوم إجازة رسمية
سافر عميد كلية الطب إلى إحدى المدن الجديدة، ليتابع أعمال التشطيب فى " الفيلا
" التى يشيدها، وصل مبكرا جدا، دهشه منظر العمال وهم يقومون بعملهم بمنتهى النشاط
والحيوية، أثار إنتباهه أحدهم، تظهر فى وجهه علامات النجابة، هو الأكثر نشاطا وهمَّة،
يحثهم على اتقان العمل وإظهاره فى أحسن صورة.
على مقعده الخاص
جلس العميد أمام " الفيلا " يحتسى كوبا من الشاى يقرأ جريدة الصباح، فجأة
رأى كتابا ملقىً على الأرض، إنه كتاب من تأليفه، يقوم بتدريسه لطلاب كلية الطب السنة
الرابعة، إلتقط الكتاب، فاذا به أحدث نسخة، النسخة التى تُدرس فى العام الدراسى الحالى،
كُتب على يسار الصفحة الأولى اسم الطالب رياض...، حدث نفسه : من الذى أتى بهذا الكتاب
إلى هنا ؟، إلى الفيلا الخاصة بى، أمر يثير الدهشة والإستغراب، ما الخطب إذاً ؟.
لعدة دقائق ظل يحدث
نفسه ويكرر الأسئلة ذاتها، قام من
مكانه، نادى على
كل العمال، طلب منهم التوقف عن العمل والحضور إليه فورا.
سألهم : من الذى
أتى بهذا الكتاب إلى هنا ؟
أشاروا جميعا فى
وقت واحد تجاه زميلهم الأكثر نشاطا، هو ذلك الشاب الذى أثار إنتباهه منذ لحظات.
تسمر "رياض"
فى مكانه، الموقف غاية فى الإحراج، المصيبة ليست فى الإحراج، بل فيما سوف سيترتب على
هذا الموقف، سرح به خياله، ربما سيطرده هذا الرجل من العمل فى البيت، ولكن من هذا الرجل
؟، إنه عميد كليته، التى يدرس بها، بل وهذا الكتاب من تأليفه.
المخيف أن يعلم العميد
أنه طالب فى الطب، ربما سيقرر فصله من الكلية، فقد يكون فى اعتقاده أنه لا يصح أن يقوم
طالب بالعمل فى مجال المعمار، ما العمل ؟ فى جزء من اللحظة سأل نفسه، المصارحة أم الكذب،
صمم على المصارحة.
طلب صاحب البيت العودة
إلى عملهم، استبقى زميلهم، أجلسه على مقعد بجوار مقعده، سأله عن صاحب الكتاب، ولماذا
أتى به إلى مكان العمل ؟
كانت إجابته : أنا
صاحب هذا الكتاب، وحملته معى إلى هنا، لأذاكر فيه وقت الراحة من العمل، وفى أوقات الذهاب
والعودة.
.
قال له العميد :
يعنى ذلك أنك طالب بكلية الطب بالسنة الرابعة !!!
أجاب : نعم.
سأله العميد : ومن
يُدَّرس لك هذه المادة ؟
أجاب : حضرتك.
قال العميد : أو
تعرفنى؟
نعم... سيادة العميد.
سأله العميد : وما
هى حكايتك ؟
أجاب الطالب : أنا
اسمى رياض...، نشأت فى أسرة فقيرة، كانت مكونة من أبى وأمى وأربعة من الأبناء، أبى
يعمل فراشاً باحدى المدارس الإبتدائية براتب زهيد.
كان الفقر دافعا
لى أنا وإخواتى على التفوق، فكنا نحصل على المراكز الأولى فى نتيجة الإمتحانات.
ولكن التعليم يحتاج
إلى المال، ودخل الأسرة ضعيف، ولا يفى بمتطلبات الحياة، مما أُضطرت معه أمى أن إلى
أن تخدم فى البيوت، حتى توفر لنا حياة كريمة.
استمر "رياض"
فى حديثه، بعد أن ذهبت عنه الرهبة
...لم ترحم أمى نفسها،
فلم تذق طعماً للراحة، منذ قيامها بالخدمة فى البيوت، كانت قليلا من الليل ما تنام،مرهقة
طوال الوقت الذى تمكثه فى البيت، لأنها لم تنسانا من القيام بخدمتنا فى المنزل، تحملت
كل هذه المتاعب، لأنها كانت تحلم أن تنادينى : دكتور "رياض"،.
أردف قائلا : سأظل
طيلة حياتى أتذكر لها مواقفها النبيلة، ضحت بحياتها من أجل حياتنا، لم تفكر فى يوم
من الأيام فى ارتداء ثوب جديد، أو أن تشترى حذاءً، لم تطلب من زوجها أو من أحدنا طلبا
خاصا بها، المهم عندها هو اسعادنا،فسعادتنا هى سعادتها.
أكمل "رياض"
والدموع تنساب من عينيه :
منذ خمس سنوات أُصيبت
أمى بمرض شديد، وبعد أن أنفق أبى على علاجها كل ما يملك مدة سنتين كاملتين، إلى أن
توفاها الله.
و بعد وفاتها باتت
أحوالنا المعيشية صعبة للغاية، ولكننا صممنا أنا وإخوتى وأبى على أن نحقق لها حُلمها
الذى طالما تمنت تحقيقه،مهما كلفنا ذلك من تضحيات.
ولم يكن أمامى أنا
وإخوتى إلا أن يعمل كل منا فى الإجازة الصيفية، وكذلك أيام الإجازات الرسمية، حتى يوفر
كل منا مصاريف دراسته.
العميد : وما هو
تقديرك السنوى.
الطالب. ممتاز.
العميد باستغراب
: شىء مدهش، تحصل على تقدير ممتاز بالرغم من كل هذه الظروف الصعبة.
الطالب : ربما كانت
هذه الظروف هى السبب فى أن أكون من المتوفقين، والحمد لله.
العميد بصوت جهورى
وبحزم : فلتترك العمل فورا، ولتقابلنى صباح الغد بمكتبى، لتُصرف لك إعانة شهرية من
الكلية.
ومن الآن فصاعدا
سوف يتعامل معك كل الأساتذة فى الكلية باهتمام، على أنك سوف تكون زميلهم فى هيئة التدريس
مستقبلا، إن شاء الله وسأتابع هذا الأمر بشخصى.
"4"الهروب إلى التفوق
بعد طول انتظار لعشر
سنوات،حملت الزوجة من زوجها، الكل يتوقع قدوم ولى العهد، أن يأتى ذكرا، ولكن الأمور
لا تسير حسب التوقعات أو الأمنيات، فى ظل ظروف اجتماعية تخالف الفطرة والشرع،وُلدت
"هند"، لم يحتفوا بها احتفاءهم بالولد، بل لم ترَ الأم من يُقدم لها التهانى
لا من الأقارب ولا من الجيران.
سمعت من الكلام ما
يثير الغضب والحزن، كانوا يتعاملون معها وكأنها ارتكبت جريمة عقوبتها القتل، أو كأنها
هى السبب فى أن يكون الجنين أنثى وليس ذكرا.
كانت "هند
" طفلة جميلة يشرق وجهها بابتسامة رقيقة، يتمنى كل من يراها ان تكون ابنته، أو
تكون له ابنة مثلها، لكن تلك النظرة لم تكن هى نظرة أبيها، الذى أهملها ولم يهتم بها.
لم يفكر يوما فى
أن يعطيها قُبلة كباقى الآباء، ظلت الطفلة حبيسة الإهمال واللامبالاة من أهلها حتى
بلغت سن السادسة، سن دخول المدارس الإبتدائية، دون أن تجد - ككل الأبناء - من يُعلمها
ألف باء اللغة، أو تعرف الأعداد أو مبادىء الحساب البسيطة، اللهم إلا بعض المعلومات
الشفوية القليلة التى تلقفتها من الأطفال أقرانها أثناء اللعب معهم فى الشارع، فنية
الأب متجهة إلى ألا تدخل المدارس وألا تتعلم، المهم أن من يتعلم هو أخوها الذى أنجبه
بعدها بثلاثة أعوام
.
بعد العديد من المناقشات
والمجادلات وممارسة الضغوط على أبيها من بعض أصحابه اللذين يقَّدرون قيمة التعليم رغم
أنهم أميون مثله، وافق الأب على دخولها المدرسة، ولأنه فى أعماق نفسه غير مقتنع، ألزم
أمها بأن تكون هذه الطفلة مشاركة لها فى معظم أعمال البيت مهما كانت شاقة، أخبرها بأنه
سيتابع ذلك بنفسه، حذرها من مغبة عدم التزامها.
الهدف من وراء ذلك
هو أن تصل الطفلة إلى مرحلة تفضل فيها البقاء فى المنزل وترك المدرسة نهائيا، ولكن
الطفلة الصغيرة " هند " ذات الذكاء الحاد كان لها رأى آخر، حباً فى التعلم
وهرباً من معاملة أبيها لها فى البيت، تحملت ما لا تطيقه الجبال، استمرت فى التعليم،
أنهت مرحلة التعليم الإبتدائى بتفوق غير مسبوق، مُرغما أكمل أبوها تعليمها حتى أنهت
المرحلة الإعدادية وهى من المتفوقين.
قرر الأب أن يزَّوج
الفتاة رغم صغرها، ساق المررات والحُجج الزائفة التى تؤيد رأيه، أخبرهم بأنه يخاف عليها
من معاكسات الشباب، حقيقة الأمر أنه لا يرغب فى أن تُكمل تعليمها، لأنها نبت وليست
ولدا.
عاد الأقارب والأصدقاء
للتدخل مرةً أخرى، فى مواجهة تعنت الأب، وتصميمه على انفاذ رأيه، الفتاة لا ترغب فى
الزواج وهى ماتزال صغيرة، ترغب فى إكمال تعليمها الذى تعشقه أكثر من أى شىء فى الحياة،
لأنها من خلال التعليم عاشت حياةً، أمتع من حياتها التى تعيشها مع أبيها، الذى يكرهها
لمجرد أنها أنثى.
ومع بكاء الفتاة
ووقوف الكثير من الناس بجانبها، تراجع الأب عن فكرة تزويجها، اشترط لتكمل تعليمها أن
يكون نظام المنازل، تتعلم من خارج المدرسة،لا تذهب إليها إلا لأداء الإمتحانات، الشرط
الأهم أن تقوم بأعمال البيت وحدها، دون أن يشاركها أحد حتى ولو كانت أمها.
فى المنزل واجهت
"هند" مشكلة وقت الفراغ، فقد اعتادت أن تستيقظ مبكرا، تنجز أعمال البيت باتقان
وفى وقت قياسى، تستذكر دروسها المطلوبة، تتطلع على بعض الكتب الأخرى، لتتسع ثقافتها
العامة، ومع ذلك فمازال أمامها وقت طويل، ماذا تفعل لشغل هذه المدة الطويلة فيما يفيدها،
أو يفيد غيرها، فكرت كثيرا فى هذا المر، إلى أن وجدت الحل.
استعطفت والدها أن
يسمح لها فى أن تفتح مكانا لمحو أمية الصغار وخاصة من البنات اللائى حرمهن آباؤهن من
الإلتحاق بالمدراس، لم تستطع اقناعه الا لما أخبرته بأنها ستقوم بهذا العمل، مقابل
مبالغ مالية كبيرة ستتلقاها من الأمهات والآباء،وعدته بأنها ستقسم تلك المبالغ بينها
وبينه،هنا وافق بحماس شديد.
بقيامها بهذا العمل
فقد ضربت "هند" أربعة عصافير بحجر واحد، استطاعت أن تستغل وقتها أفضل استغلال،وتنقذ
الكثير من البنات والأبناء من الوقوع، فى براثن الأمية والجهل،وشهدت منافع لها من الدخل
الشهرى الذى سيدره هذا العمل، والأهم تحسين علاقتها بأبيها.
خلال ثلاث سنوات
أنهت المرحلة الثانوية، كانت الأولى على مستوى محافظتها، ولها أن تلتحق بكلية الطب
حسب مجموعها المرتفع، أقسم الأب ألا تدخل هذه الكلية، وأنها لن تلتحق إلا بكلية الآداب
لقربها من القرية، ولن يتم ذلك إلا إذا تزوجت من ابن خالها
.
كان له ما أراد وكان
لها ما أرادت، مرت أربع سنوات، تغيرت أحوالها إلى الأحسن، رُزقت فيها بعمر وعثمان،
وتمكنت من الحصول على شهادة الليسانس فى الآداب قسم اللغة العربية.
فى صبيحة يوم من
الأيام حضرت إلى منزل ابيها فى زيارة مفاجئة، لتُريه الخطاب الذى استلمته تواً، والقادم
لها من الكلية بتعيينها معيدة، لأنها الأولى على الدفعة، وتستأذنه فى قبول الوظيفة
بعد أن استأذنت زوجها.
"5"رجل أمام العوائق
أُصيب "زكريا"
منذ صغره بشلل الأطفال فى قدمه اليسرى، تعب والداه كثيرا فى معالجته، على الرغم من
ضيق العيش وقلة المواصلات، لم يتركا بابا الا وطرقاه، حتى المعالجين بالطب الشعبى،
عذبوه بالكى بالنار أملا فى علاجه، ولكن دون جدوى.
نشأ "زكريا"
فى قرية يُخيم عليها الجهل، يعيش أهلها فى فقر مدقع، إهمال،لامبالاة، تواكل، قدره أن
يعيش طوال عمره وهو أعرج،هذه الكلمة لم تفارقه منذ أن وعى الحياة، طالما اخترقت قلبه
قبل سمعه كالرصاصة، فينزف قلبه ألما وحسرة، مما جعله يشعر بالغربة بين زملائه فى بعض
الأحيان، وبالضيق والغضب أحيانا أخرى.
بمرور الأيام والسنين،اعتاد
على المواقف المُحرجة،استعلى عليها، تخطى هذه المرحلة المؤلمة، بقوة إيمانه بالله،
بتفوقه العلمى على جميع أقرانه،بمستوى تفكيره الذى يسبق سنه، أما هدوؤه وثقته فى نفسه
فقد أجبرا زملاءه على احترامه وتبجيله.
فى صباه حاول أن
يشارك أصحابه اللعب كل اللُعبات، التى يمارسونها - وخاصة لُعبة كرة القدم – ورغم قلة
حركته وضعف قدرته على منافستهم إلا أنهم تقبلوه بروح طيبة، بمرور الأيام فضَّل أن يقوم
بدور الحَكم لهم، فدور الحكم أيسر، حاز على ثقة الجميع، قراراته نافذةً عليهم دون تعقيب.
كثيرا ما عانى
"زكريا" من الظروف المعيشية القاسية منذ طفولته حتى مرحلة الشباب، استطاع
أن يتغلب عليها، باعطائه الدروس الخصوصية لمن هم أصغر منه فى السن، مقابل مبالغ مالية
قليلة، تمكنه من سد احتياجاته كطالب علم.
برع فى مادة الرياضات
أثناء فترة تعليمه، برزت مناقشاته المتميزة لأساتذته، فى مسائل فوق مستوى الطلاب، لا
يعرفها إلا قليل من المدرسين، التحق بكلية التجارة، لم يراوده طموح التفوق فيها، انصب
طموحه على كيفية التفوق فى مادة الرياضيات، حتى ذاع صيته بين المدرسين، وسع الله له
فى رزقه، وهو مايزال طالبا جامعيا.
فى بداية الإجازة
الصيفية التالية للسنة الأولى له فى كلية التجارة، أشار عليه أحد الأطباء بامكانية
إجراء عملية جراحية له تصلح من شأنه، وتجعل من مشيته مشية طبيعية، أو على الأقل شبه
طبيعية، لم يُجبه مباشرةً، طلب منه أن يعطيه مُهلة للرد.
ذهب إلى البيت، استلقى
على سريره، سرح بخياله بعيدا، تذكر قسوة الحياة التى عاشها، وكم عانى لكى يعيش كريما
أبيا، لم يمد يده لأحد يوما من الأيام، تصور نفسه وقد أجرى العملية الجراحية بنجاح،
تخيل حاله وروحه المعنوية عالية جدا، يمشى بثقة وتؤدة على قدمين ثابتتين، متوجها إلى
بيت فتاة جميلة ذات حسب ودين
، يقابل أباها.
يطلب يدها، دون تردد
يوافق فورا، فليس فيه من العيوب ما يجعله مرفوضا، إنه سليم معافى، يتفقان على كل صغيرة
وكبيرة، يحددان موعد الفرح، أسماء المدعوين من الطرفين، لم يختلفا فى أى أمر من الأمور.
يوم البناء يمسك
باليد اليسرى لعروسه الجميلة، مرتدية فستانها البديع،يصطحبها إلى قصره الفخيم، شيده
من ماله الوفير، الذى جمعه من خلال عمله مدرسا خصوصيا، أيقظته من هذا الحُلم الجميل
دقات امه على باب غرفته ليتناول وجبة الغداء.
أجرى "زكريا"
العملية الجراحية، كله أمل فى نجاحها، شاركه الأمل أقاربه وجيرانه وأحبته وهم كثير،
جميعهم دعوا له كثيرا، تمنوا أن تنجح العملية، مر شهر على إجراء العملية،الجميع فى
انتظار النتيجة، الأمل يحدوهم،الأحلام الجميلة تراودهم.
فوجىء الجميع بفشل
العملية الجراحية، لم يستطع أحد منهم أن يُخفى حزنه وحسرته، منهم من صرخ، منهم من بكى
بكاءً شديدا، منهم من أُغمى عليه...، أما هو فقد استقبل الأمر بكل اطمئنانٍ وهدوء،
قال لهم : قدَّر الله وماشاء فعل، ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، وعسى أن تحبوا
شيئا وهو شر لكم، فالخير لا يعلمه إلا الله، لم يستسلم لليأس أو القنوط، رضى بقضاء
الله.
بكل همة وحيوية استأنف"زكريا"
نشاطه، مارس حياته كأن شيئا لم يكن، استمر فى تحقيق النجاح تلو النجاح، أنهى عامه الدراسى
بنجاحه فى السنة الثانية من كلية التجارة، أما طلابه فقد حصل معظمهم على الدرجات النهائية
فى مادة الرياضيات فى الثانوية العامة، فكثر عدد الطلاب الراغبين فى التعلم على يديه.
أنهى "زكريا"
دراسته،التحق" زكريا" بوظيفة مناسبة، تزوج من بنت الجيران التى كان يتمناها
زوجةً له، أسكنها بيتا جميلا، استمر فى اعطاء الدروس الخصوصية، صار من المدرسين المشاهير،
اللذين يشار اليهم بالبنان.
ولأن المؤمن يُبتلى
على قدر إيمانه، فقد جاء" زكريا " ابتلاء جديد، قررت وزارة التربية والتعليم
الغاء تدريس مادة الرياضيات التقليدية، والبدء فى تدريس مادة الرياضيات الحديثة، التى
لم يدرسها من قبل، الأمر جد لا هزل فيه، والوقت ربما لا يسعفه، إما أن يتوقف عن التدريس
نهائيا، ويبحث عن أى عمل آخر يقتات من ورائه، ولكن أين هذا العمل ؟، وإما أن يدرس الرياضيات
الحديثة فى أسرع وقت ممكن.
لثقة " زكريا
" فى نفسه، فهو حاد الذكاء، سريع الإستيعاب، أتى بالكتب الجامعية المتخصصة فى
الرياضيات الحديثة وبنفسه علَّم نفسه، أتقن مادة الرياضيات الحديثة بصورة فائقة، فى
وقت قياسى، شرع فى تدريسها أفضل من أى مدرس آخر.
أثارت شهرة
"زكريا" كثيرا من منافسيه، باثارة الشائعات حوله، بالتقليل من شأنه، بتقديم
الشكاوى ضده، وبغيرها من الأساليب الملتوية، همهم الأكبر أن يوقفوه عن التدريس.
لم تؤثر فيه هذه
المواقف، بل زادته قوة وصلابة، وكان رده دائما عمليا، فعل الخيرات دون توقف، بعض الطلاب
يعطيهم الدروس بلا مقابل، نظرا لظروفهم المادية الصعبة، والبعض الآخر أيضا بلا مقابل
لأنهم أبناء الأصدقاء والأقارب.
وبالرغم من كل ما
قابله من آلام ومشكلات وابتلاءات شديدة، فقد فتح الله عليه أبواب الرزق الوفير، مازال
يتصدق ويصل الرحم ويصلح بين المتخاصمين.
"6"الإبتسامة التى تأخرت
مات زوجها، وهى فى
ريعان شبابها، لم تُكمل السادسة والعشرين من عمرها، أنجبت منه ولدين وبنتا، لم تكد
تصدق " سعاد" أنها باتت أرملة، باتت وحيدة، مسئولة عن نفسها وعن أبنائها،
عن حاضرهم، عن مستقبلهم، إنها تؤمن بأن الموت حق، فقضاء الله نافذ لا راد له، ولكن
القادم صعب، فالمعاش الذى ستتقاضاه لن يكفى لسداد كل النفقات، قيمة الإيجار الشهرى
للشقة التى تسكنها فى المدينة، مصاريف المدارس، الطعام، الملابس، العلاج، والله أعلم
بما يخفيه القدر.
العلاقة مع والد
زوجها - جد الأولاد - غاية فى السوء، فلم ينسَ يوما من الأيام، أنها تزوجت ابنه، رغم
عدم موافقته على تلك الزيجة، بسببها كان قاسيا فى معاملته مع زوجها، من المتوقع أن
يزداد الأمر سوءً، ويتسع الخلاف بينها وبينه، فهو يكرهها كراهيته للعمى، وبالرغم من
غناه فلن يقف بجوار اليتامى – أحفاده – انتقاماً من أمهم.
هذا الإبتلاء ليس
الأول بالنسبة لها، فمنذ خمس عشرة سنة فقدت أمها، عاشت هى وأخواتها الأربعة أياما صعبة
وظروفا قاسية، فمع حرمانها من حنان الأم، عانت من قسوة الأب، الذى أهمل بناته الخمسة،
عاش جُل عمره ما بين الزواج والطلاق، ليس الا حبا فى أن ينجب ولدا، ولما استيأس زهد
فى الدنيا، اعتزل الناس، عاش وحيدا حتى مات.
تمتلك "سعاد"
وأخواتها قطعة أرض زراعية، ميراثا عن أبيها، مساحتها فدان، باحدى القرى، وضع عمهن يده
عليها بالقوة منذ وفاة والدهن، لا يأخذن منه الا مبالغ زهيدة كل عام، واذا طلبت البنات
أن يبعنَّ له الأرض، لايرضى الا بثمن بخس دراهم معدودات، ولوفُرض و تناولن بعضا من
حبوب الشجاعة، وطلبن منه أن تُباع الأرض إلى شخص غيره، قامت الدنيا ولم تقعد، وسمعن
منه عبارات التهديد و الوعيد، كل عام يتكرر هذا المشهد، والنتيجة هى هى لم تتغير.
قررت " سعاد"
أن تواجه الحياة وحدها، متوكلةً على الله،لا ينبغى أن تمكث فى البيت طويلا، تتلقى التعازى
ممن يعرفها، ويضيع الوقت سُدى، المهام هائلة وكثيرة، الإمكانات ضحلة وقليلة، لابد من
البحث عن عمل مناسب، لم تُكمل تعليمها الجامعى بسبب الزواج، وتربية الأولاد، معها شهادة
الثانوية العامة، وُفقت سريعاً - على غير المعتاد - أن تلتحق بعمل حكومى براتب شهرى،
يساعد مع معاش زوجها فى سداد معظم الحاجيات، وليس كلها.
فى صبيحة يوم جمعة،
فوجئت "سعاد" بعمها، يدخل عليها البيت، يحمل معه بعض الفاكهة، يخبرها بسبب
زيارته لها، يطلب يدها لإبنه ليتزوجها، يبدى لها رغبته فى أن تعود معه إلى القرية وعها
أولادها، ليعيشوا هناك فى أمن وأمان، بتلطف وباعتذار رقيق رفضت طلبه.
فى اليوم ذاته مكالمات
هاتفية من عدة أقارب وأصدقاء، منهم من يعرض عليها الزواج، ومنهم من يطلب منها العودة
إلى القرية،حُججهم أنها صغيرة السن، فارهة الجمال، الحِمل عليها ثقيل، النفقات باهظة،
المشاكل كثيرة...، هذه المكالمات زادتها حزنا على حزنها، لكنها سرعان ما تغلبت على
أحزانها، بعد أن شغلت نفسها بالتفكير فيما ينبغى أن تقوم به، لتسير أمورها على ما يرام.
بعد نزولها للعمل،
تغيرت عادتها، فمن الصباح الباكر تجهز حقائب الأطفال للذهاب إلى المدرسة، أو إلى الحضانة،
الملابس السوداء المحتشمة هى ما اعتادت ارتداءه بقية حياتها، الجدية تبدو فى مشيتها،
فى كلامها، فى تصرفاتها، انضباط فى المواعيد، فى واجبات العمل، المجاملات و الزيارات
ممنوعة، حضور المناسبات أيضا ممنوع،، فى المساء تجلس مع الأبناء تراجع معهم الدروس،
تطمئن على قيامهم بانهاء الواجبات، وهكذا بدأت حياتها الجديدة.
فى ظهيرة يوم من
الأيام، بعد مرور خمسة أشهرعلى وفاة زوجها، فاذا بأحد الأشخاص- عرَّفها بنفسه،إنه مُحضر
من المحكمة -يقف أمام باب المنزل يطلب منها أن تُوقع على ورقة، إنها إعلان بقضية رفعها
عليها والد زوجها، يطالبها بنصيبه فى الأجهزة الكهربائية والمنزلية التى كان يمتلكها
زوجها قبل وفاته.
لم تتمالك
"سعاد" أعصابها من هول المفاجأة، جهشت بالبكاء، الجد يريد سلب غسالة الأطفال
المتواضعة، الثلاجة المتهالكة، تلفاز صغير، أربعة مقاعد خشبية قديمة، صرخت صرخات هستيرية،
وهى تتساءل بصوت مرتفع : ألا يكفيه أنه يحرمهم من المال، من العطف، من السؤال عليهم،
أفى قلب هذا الجد رحمة ؟، أليسوا أحفاده؟ اجتمع عليها الجيران، حاولوا تهدئتها، ولكن
دون جدوى، نقلوها إلى المستشفى لتعالج من الصدمة التى واجهتها.
الأيام والأعوام
تمر، الأبناء يكبرون، يتفوقون فى الدراسة، الإنضباط سمتهم، يشهد لهم الجيران والزملاء
بأخلاقهم الطيبة، يتمنى الأباء من حولهم أن يكون أبناؤهم مثلهم خُلقاً وعلماً، ولكن
المتطلبات زادت، والمال معهم لا يكفى، الجد مازال متعنتا معهم، لا يتركهم فى حالهم،
يشغل الأم بالقضايا أمام المحاكم من حين لآخر، يثير الشائعات ضدها، الأهم من هذا هو
حاجتهم للمال، ولكن من أين ياتى المال؟.
ليس أمام "سعاد"
الا قطعة الأرض التى تمتلكها على المشاع مع أخواتها، نصيبها فيها يزيد على أربعة قراريط
بقليل، اتفقت مع عمها- نظرا لحاجتها الملحة - على أن يشتريها منها بنصف الثمن، لم يكفِ
هذا المبلغ سوى لمدة عام واحد، سرعان ما عادت الأمور إلى وضعها السابق، الأبناء على
مشارف الإنتهاء من المرحلة الثانوية، وهم مازالوا متفوقين، وإن لم يُنفق عليهم فلن
يستطيعوا الإلتحاق باحدى كليات القمة، مما اضطرها إلى شراء ماكينة خياطة بالتقسيط،
اشتغلت بحياكة الملابس، ليزداد الدخل، تحسنت معه الأحوال.
فى منتصف ليلة من
ليالى الشتاء، أيقظ "سعاد" رنين الهاتف، خبر وفاة جد الأولاد، فى الصباح
الباكر توجهت هى وأبناؤها، إلى قريتها التى لم ترها منذ وفاة زوجها، لتحضر مأتم جد
أولادها، الذى مات وهو يحاربهم، ولكن أداء واجب العزاء فوق أى اعتبار، التقت بعم الأولاد
الذى كان تابعا لأبيه فى محاربة أحفاده، وهم أولاد أخيه، وعدها بأنه سيصلح ما أفسده
أبوه، استبشرت خيرا.
تغيرت الأوضاع، وتبدلت
الأحوال، أمس كانت هناك أمور، واليوم برزت أمور جديدة، تَركة الجد الهائلة، أراضى زراعية،عمارات،
أموال فى البنوك، حدائق، خيول، جمال، وغيرها الكثير، الأحفاد لهم نصيبهم بالوصية الواجبة،
ينتظرهم خير كثير، ماذا تصنع الأم ؟، إن امتنعت عن المطالبة بحق أبنائها الشرعى، فهى
آثمة، وإن طالبت بحقوقهم علانيةً، فربما يتهمونها بأنها تنتقم من الجد لما فعله معهم.
بعد تفكير عميق،
استمر أياماً عديدة، قررت أت تطالب عم الأولاد بتلطف، ودون أن يسمعها أحد، اتصلت به
هاتفيا، تطلب منه تسليم أبنائها حقوقهم الشرعية فى تركة جدهم، من خلال هذه المكالمة
سمعت من السباب والشتائم والألفاظ، ما لم تسمعه فى حياتها، وكأنها ارتكبت اثما عظيما،
أنهتة المكالمة، حدثت نفسها : من شابه أباه فما ظلم.
نصحها الكثير من
الناس أن ترفع على عم الأولاد قضية، تطالب بحقوق أبنائها، إنهم يحتاجون المال، والظروف
غاية فى الصعوبة، وهذا حقهم الشرعى، لن يرتكبوا حطأ اذا ما طالبوا به، سيتهمهم الكثير
بالضعف والجبن، لعدم قيامهم بالمطالبة بحقوقهم، وبالرغم من قوة الحجج وصدق الناصحين،
الا أنها ردت عليهم بقولها : اننا لنصبر على ظروفنا القاسية، مهما طال الزمن، ولا نرتكب
أى تصرف من شأنه أن يقطع صلة الرحم، مع أنهم هم اللذين مزقوها من قبل.
تفوق الأبناء كان
سببا فى زيادة دخل الأسرة الصابرة، فادارات الكليات التى يدرس بها الأبناء، كانت تمدهم
بالكتب المجانية، تعطيهم المكافآت المالية والحوافز، حتى تخرجوا جميعا، فكانت
"هبة " الأولى على دفعتها بكلية الهندسة، و"تامر" ثانى دفعته فى
كلية الطب، و "مهند" الأول على دفعته بكلية الصيدلة.
عندما علم عم الأولاد
بنجاح أبناء أخيه، هُرع إليهم ليقدم لهم التهانى، ويطلب منهم أن يسامحوه، ويخبرهم بأنه
على استعداد لتسليمهم نصيبهم فى تركة جدهم، هنا ابتسمت الأم "سعاد " لأول
مرة منذ وفاة زوجها، قائلة له : جئت أهلا ونزلت سهلا، شكرا لكم على تأخركم علينا طوال
هذه السنين، فرُب ضارة نافعة، نحن مستعدون لإستلام نصيبنا فى التركة ولكننا لسنا مستعجلين،
فحالنا اليوم والحمد لله على مايرام.
"7"الحريق
ورث " سالم
" عن أبيه " كشك " لبيع الجرائد، قبيل أن يتبين الخيط الأبيض من الخيط
الأسود من الفجر، يُهرع ليقف أمام " الكشك" يتسلم الجرائد اليومية من السيارة
التي تحمل الجرائد والمجلات، يمكث حتى الظهيرة يقظاً مثابراً، لينتهي من بيع الجرائد،
لا يستطيع أن يتأخر يوماً واحداً، فليس هناك عقوبة للتأخير سوى الطرد من " الكُشك
" لأنه لن يتمكن من دفع الإيجار لصاحب المكان، ولا خيار آخر أمامه، فهذا الـ
" كشك " هو الذي يدر عليه دخلاً شهرياً طيباً " يكفيه لشراء الفول و
الطعمية التي تسد رمقه , و ان زادت فلا باس بشيء من اللب المصري اللذيذ :) ".
اشتهر " سالم
" بين الناس بطيبة القلب وحسن الخلق، أما أهم ما يميزه فهي تلك الابتسامة التي
لا تفارق وجهه مهما كانت الظروف، إلا أن هذا الأمر لم يعجب منافسه الوحيد صاحب
" الكشك " الآخر، فقلبه مليء بالحقد تجاه " سالم "، يعتاد التأخر
في فتح " الكشك"، يغلظ في التعامل مع رواده، كثير من زبائنه انقطعوا عن الذهاب
إليه، اتجهوا صوب " سالم ".
ولأن إيمانه ضعيف
لعدم يقينه بأن الرزق بيد الله، ولم يتعود على التوكل على الله والأخذ بالأسباب،فقد
قرر المنافس الحاقد أن ينتقم من " سالم "، تسلل متخفياً ليلاً والناس نيام،
أشعل النيران في " كُشك سالم "، أتت النيران على كل ما فيه، اعتقد هذا الحاقد
أن الرزق يمكن أن يأتى بارتكاب الجرائم، أو باشعال الحرائق.
تصور هذا الجانى
أنه بالإجهاز على "كشك" "سالم"، فسوف يأتيه الرزق من أوسع الأبواب،
عماه الحقد وأضله الشيطان، و لم يدر بخَلده أن الناس على استعداد لأن تدفع أكثر دون
اكراه، حباً فى معاملة حسنة أو كلمة طيبة، أو تقابل بابتسامة مشرقة.
الخسارة شديدة،
" الكشك " المتفحم يثير غضب المارة، يتألمون لرؤيته، سلَّم "سالم
" أمره لله، أخفى حزنه وغضبه، لم يتهم أحداً بارتكاب جريمة الحريق العمد , رغم
علمه اليقيني بالجاني، لكن أخلاق الكبار تمنعه من ذلك , سرعان ما أعاد إقامة الكشك
من جديد، بصورة أروع مما كان عليه من قبل.
جاء هذا الحادث دافعاً
له، ليحقق طموحاته التي لم تغب يوماً عن تفكيره، طلب من الموزعين أعداداً إضافية من
نسخ الجرائد الواردة، و تزويده بجرائد و مجلات متخصصة لم يعرضها للبيع من قبل، لميتأخروا
عن الإستجابة لرغبته، لبوا له طلبه، لسيرته الطويلة معهم، الزاخرة بالصدق والأمانة.
دائماً كانت تتملك
"سالم" الرغبة في النجاح والتفوق، والتوسع في العمل وتطويره، فكر في أن يجرب
عرض كتب لمشاهير الكُتاب أمام " الكشك "، سرعان ما نجحت الفكرة، فى فترة
وجيزة، راجت تجارته، ارتفع دخله كثيراً كثيراً.
تعرف على عدد من
المثقفين من رواد " الكُشك "، منهم أحد المؤلفين الجدد، اتفق معه على طبع
و نشر أحد كتبه، يشاركه في النفقات وأيضا في الربح، تعثَّر فى البداية , و أُجهدفى
الثانية , و في التجربة الثالثة كانت القفزة الكبرى في مجال الطبع والنشر.
كرر التجربة مع غيره،
و عدَّل أخطاءً سمع أصداءها من الزبائن , فكان من المتميزين بالمهارة و الأمانة في
هذا المجال، انتشر اسمه في مجال الطباعة و النشر، تزاحم عليه الكثير من المؤلفين والكُتاب،
مرت عدة سنوات، افتتح دار نشر زودها بأجهزة متطورة و مصمم محترف و قسم للتسويق , أصبح
من كبار أصحاب دور الطبع و النشر في البلاد , " و لم يترك عادته في البكور
:). كان يردد دائماً في لقاءاته و استضافاته الحكمة الجميلة التي وظفها لصالحه و لو
على سبيل الدعابة ( من كانت له بداية محرقة , فحتماً ستكون نهايته مشرقة ).,
أما صاحب الكشك المجاور
فقد عرض "سالم" عليه العمل معه كموزع معتمد لإصدارات الدار , من باب حق الجوار
, و كان يوصي قسم التسويق بمراعاته و التسهيل له في آلية السداد و الدفع , أخجله التعامل
و بعد سنة اعترف له بفعلته القبيحة , فما كان من " سالم" و هو صاحب القلب
الكبير كما جسمه السمين إلا أن تبسم في وجهه، قال له : أعلم ذلك من حينها , و الموضوع
ولى و فات , و نحن أبناء اليوم.
"8"اليد العُليا
فى منتصف ليلةٍ شتوية
باردة،استيقظ "صابر" على قرع باب البيت، فتح الباب، فاذا بأحد الجيران يقدم
له بطانيةً جديدة، اعتذر له عن إيقاظه فى وقت متأخر من الليل، أخبره بأن الطبيب المشهور
هو الذى أرسل البطانية، واختار هذا التوقيت حتى لايعرف أحد بالأمر.
عاد " صابر"
إلى فراشه مرة أخرى، انتابته قشعريرة شديدة، ليس بسبب برودة الجو القارس، وانما بسبب
هذا الموقف المُحرج، شعور بالضعف والإهانة،صحيح أنه ليس الموقف الأول، فقد اعتاد على
مثله كثيرا، ولكنه كان صغير السن، وربما لم يصل وعيه آن ذاك لإستيعاب تلك المواقف،
الآن أصبح الأمر مختلفا،فهو فى بداية مرحلة الشباب.
ندب حظه على حاله،
فقد وُلد فقيرا، ومايزال الفقر لم يبرحْ بيته،ولاتوجد ارهاصات تُنبىء على ذهابه،إنه
لايستطيع أن يرفض هذه الصدقة، فهو فى أمس الحاجة إليها - ومعه أسرته -، هذه ليست الصدقة
الأولى، ولن تكون الأخيرة، وفى ذات الوقت فهوعلى يقين من أن صورته لن تُمحى من ذاكرة
ذاك الشخص الذى أعطاه البطانية، صورة الإنسان السائل المحروم، الذى اعتاد على تقبل
الصدقات.
ذهب عنه النُعاس،
ظل مستيقظا، تراكمت عليه الذكريات الأليمة،تذكر يوم أن هطلت الأمطار على قريته بصورة
لم يسبق لها مثيل، وهو طفل صغير، استمرت عدة ساعات بلا توقف، البيت الطينى الذى يسكنه
قديم، ينخفض عن مستوى الشارع بنصف متر، جدرانه تريد أن تنقض، سقفه من جريد النخيل المتهالك،
تساقط سريعا من شدة المطر، فالتقى الماء المتساقط من أعلى مع الماء القادم من الشارع،
فامتلأ البيت بالماء عن آخره،استغاثت الأسرة الحزينة، ترك الناس منازلهم، هُرعوا إليهم
لإنقاذ ما يمكن إنقاذه، لم يبخلوا عنهم بالمساعدات، تذكر كثيرا من المواقف التى لبى
الناس طلباتهم، أو وقفوا بجانبهم دون سؤال، حتى غلبه النوم.
بمساعدة أهل الخير،التحق
"صابر" بالمدرسة الثانوية،اتسمت شخصيته بالإنطاوئية، قلما يتعرف على أحد،
أصحابه لا يتعدون أصابع اليد الواحدة.
فى أحد الأيام ذهب
"صابر" إلى المسجد لأداء صلاة الجمعة، بعد الصلاة سأل الخطيب : ما معنى ما
يروى: (اليد العُليا خير من اليد السُفلى)؟، أجابه : اليد العُليا: هي المُعطية، والسُفلى:
هي الآخذة، يعني: أن المعطي أعلى من الآخذ, لأن الآخذ يرى نفسه دون المعطي، والمعطي
يرى نفسه فوق الآخذ، وهو حثٌ على أن يزهد المرء فيما عند الناس.
نزلت اجابة خطيب
الجمعة على "صابر" كالصاعقة، ومن يومها تبدلت أحواله، تغيرت أفكاره وتصرفاته،
قرر ألا يمد يده لأحد،ألايقبل مالا أو صدقة، سيأكل من عمل يده، وقته سينقسم ما بين
التعليم والعمل.
شرع "صابر"
فى تعلم مهنة السباكة، وعمل مساعد سبَّاك، بعدها انتقل إلى مهنة المحارة،وغيرها من
المهن الأخرى، امتهن فترة تربية الدواجن،حتى أصبج يجيد كثيراً من الأعمال الحرفية،
ثم استقر به المقام للعمل مع أحد التجار فى مجال الحبوب، تعلم منه فن التجارة، والتعامل
مع الناس، الأمانة والمهارة فى البيع و الشراء، لاتخدع أحداً، ولا يخدعك أحد، بمرور
تلك الأعوام أصبح"صابر" من الميسورين، أتم تعليمه الجامعى أيضا.
فكر "صابر"
فى أن يستقل عن تاجر الحبوب،فوضعه الآن يمكنه من ادارة أى مشوع كبير، ودوام الحال من
المحال، ومن سنن الحياة أن الصغير يكبر، وأن أوضاع الناس تتبدل وتتغير،ولكن المشكلة
الكبرى التى كان يخشى من وقوعها،رد فعل الرجل صاحب الفضل عليه.
وكما توقع
"صابر"، كان رد فعل الرجل عنيفا، لم يتحمل الصدمة، قال له : فعلا...صدق القول
المأثور : اتقِ شر من أحسنت إليه، أهكذا يكون رد الجميل، الخيانة والغدر، لم أتوقع
أن يصدرا منك فى يوم من ايام،أتريد أن تسحب الزبائن والعملاء منى، ليتعاملوا معك، فى
محلك الجديد لتجارة الحبوب.
قابل "صابر"
انفعال الرجل بهدوء، صمت برهة، ثم ضحك، قال للرجل : تعلم أنى لم أتعود على الخيانة
أو الغدر،ولتعلم أن لا انتوى أن أعمل فى تجارة الحبوب، ولن أقترب منها، سأشق طريقا
آخر.
شرع "صابر"
فى ممارسة التجارة فى مجال السلع المعمرة، سلع منزلية، وسلع كهربائية، نقدا وتقسيطا،
فلديه خبرات واسعة فى التجارة، فضلا عن ثقة الناس فيه.
لم تكد تمر بضع سنوات،
صار "صابر" من مشاهير التجار، بسط الله له الرزق الوسيع،اعتاد أن يُلقى السلام
على من يعرف ومن لا يعرف، يُطعم الطعام، يصلى بالليل والناس نيام، يعطى الفقراء والمساكين
مما أعطاه الله، سألوه المال أم لم يسألوا، أما من كان لهم فضل عليه من الميسورين،
فكان يعطيهم أيضا وبلا انقطاع، ولكن فى صورة هدايا.
"9"لقاء على غير موعد
غمرته سعادة غامرة
عندما علم بنجاحه، إنه يحمل الآن شهادة بكالوريوس التجارة، شُعبة محاسبة،رغم حصوله
على تقدير "مقبول"، المسمى بالتقدير الشعبى، الا أنه كان أسعد الناس، استراح
من قراءة الكتب الجامعية، ومن قبلها الكتب المدرسية، استراح من سماع كلمة "ذاكر"،
لم تستفزه كلمة مثلها، عندما كان يسمعها يستشعر كأن رصاصةً اخترقت أذنه.
استراح من الوقوف
موقف السائل أمام أمه أو أبيه، يطلب من أحدهما اعطاءه المصروف الشخصى، أو مصاريف الكلية،
أو مبلغ مالى لشراء كتاب أو عدة كتب، رغم أن أحدهما لم يتأخر يوماً فى تلبية طلباته،
لكنه كان يستشعر قسوة ظروف أسرته المالية، فدخل الأسرة محدود، وله من الأخوة أربعة،
المهم أنه ينبغى عليه ألا يكون عبئا على أبويه منذ هذه اللحظة، ولكن كيف؟، لا يدرى.
مر أسبوع التهانى
سريعا عاد "أشرف" إلى التفكير فى المستقبل، أسرة متوسطة الحال، لا توجد وظائف
حكومية، أبواه يأملان فى أن يكون مُعيناً لهما فى الإنفاق على بقية إخوته، فهو الإبن
الأكبر، فرص العمل قليلة، اللهم الا بعض الأعمال الحرفية الشاقة، التى لم يتعود عليها.
ليس له أقارب فى
مناصب مرموقة، لمساعدته فى الحصول على عمل فى احدى الشركات الإستثمارية، ولو فكر فى
السفر إلى الخارج، فمطلوب منه مبالغ هائلة للحصول على عقد عمل، عاش الشهر التالى لنجاحه
أسيراً للقلق والإحباط، يشعربالخوف الشديد من القادم.
عزم "أشرف"
على زيارة ابن خالته، اسمه "عادل"، يكبره بعامين، لم يره منذ قترة طويلة،
يسكن فى حى بذات المدينة، ولكنه يبعد عنه عدة كيلو مترات، كان قد علم بنجاحه، لكنه
لتعرضه لوعكة صحية أصابته، لم يستطع الحضورلتهنئته، فهنَّأه هاتفيا، وصل إلى بيت ابن
الخالة، سأل عنه، أخبروه بأنه يجلس مع أصحابه على المقهى، فى آخر الشارع.
مضطراً دخل
"أشرف" المقهى، فهو يكره المقاهى والجلوس فيها، إنها مضيعة للوقت والمال،ربما
كانت سبباً فى حدوث الكثير من الخلافات الزوجية، والمشكلات الأسرية، دائما يتحاشى دخان
الشيشة لأضرارها االصحية، لايعلم أن المرة الأولى لدخوله مقهى، ستكون فاتحة خير عليه.
جلس على الطاولة
مع ابن خالته و ثلاثة من أصدقائه، تعرف عليهم، تعرفوا عليه، مرت دقائق قليلة، فاذا
به يتحدث معهم وكأنه يعرفهم منذ سنوات، حكى لهم ماحدث خلال الشهر السابق، كان يحكى
حكايته، والدموع تكاد تتساقط من عينيه.
انتهى "أشرف"
من حديثه، فاذا بالأربعة يتضاحكون، يقهقهون، يتمايلون يمينا وشمالا،رواد المقهى اتجهت
نظراتهم نحوهم، شرع فى الإنصراف استهجانا لسخريتهم منه، أجلسوه بعد محايلات، أفهموه
أنهم فى الهم سواء، وكما استمع إليهم، فعليه أن يستمع إليهم، فحكاياتهم الأربعة متطابقة
تماما مه حكايته، لاتختلف عنها الا فى الأسماء، بل ربما تكون حالته أهون من حالتهم،
فهم قد أنهوا تعليمهم الجامعى منذ سنتين أو أكثر، ولم يجد أى منهم وظيفة، مازالوا عاطلين،
انفرجت أساريره، لم يتمالك نفسه من الضحك الهستيرى.
استأنف " أشرف"
الحوار معهم، قال لهم : هيا بنا نأخذ الحديث مأخذ الجد، ليس من المعقول ولا من المقبول
أن نعيش حياتنا هكذا، نحن نمتلك قدرات هائلة و طاقات جبارة لنقوم بأعمال مهمة،ولدينا
موهب وامكانات حبانا الله بها، ولكننا لا نستغلها، المشكلة تكمن فى أننا لانحاول أن
نبحث بجدية، عن فرصة عمل يناسبنا، وأنا على يقين من وجود الكثير من الفرص، وعلينا أن
نفكر بعمق ثم نتحرك.
طلب :أشرف"
منهم أن يعرض كل منهم فكرة أو اقتراحا، قال أحدهم : لنذهب معاً إلى الصحراء ونتسلم
قطعة أرض ونزرعها، رفضوا اقتراحه، لأنهم لاخبرة لهم فى هذا المجال، فاقترح آخر أن يتعلموا
التعامل فى البورصة، قيل له : ومن أين نأتى بالأموال ؟، توالت الإقتراحات، التى لم
يُقبل منها واحد، حتى مر وقت طويل.
طالت الجلسة، كادوا
أن يصلوا إلى مرحلة الإحباط، قال لهم " أشرف" : أنا أسكن فى عمارة تقطنها
عشر أسر، ربات البيوت فيها يحتجن إلى من يمدهن بطلباتهن المنزلية وهى كثيرة، أرهقهن
نزول السُلم وصعوده مرات عديدة يوميا، أنهكهن الجهد الشديد الذى يبذلنه لساعات طويلة،
فى الشراء من المحلات والدكاكين، والذهاب والعودة، وصعوبة حمل الحاجيات فى بعض الأحوال،
إنهن على استعداد أن يدفعن مبلغ مالى زيادةً على سعر السلعة،على أن يُؤتى بها إلى منازلهم،
قالوا له : ومن أخبرك بهذا ؟
رد : العديد من ربات
البيوت فى العمارة التى أسكن فيها.
قالوا له : وما هو
اقتراحك تحديدا ؟.
قال : ملخص الفكرة
أن هؤلاء الناس يحتاجون إلى طلبات كثيرة، يومية وأسبوعية وشهرية، ويمكننا أن نأتى بها
لهم، ولأسرنا بسعر الجملة، وهو أقل من سعر المستهلك، ولنا الفرق أو الربح، زيادةً على
مقابل التوصيل للمنازل.
أردف قائلا : هذا
المشروع فكرت فيه كثير، وربما يحتاج إلى قليل من المال، وقد لايحتاج إلى رأسمال أصلا،
وما يعانى منه سكان عمارتى، يعانى منه سكان العمارات الأخرى، وهى كثيرة جدا، وما تأخرت
عن تفيذه سوى أننى لا لأستطيع القيام به بمفردى، قالوا جميعا بصوت واحد : نحن معك،
حددوا موعدا للإتفاق على تفاصيل المشروع.
اتفقوا على أن تبدأ
الدعاية للمشروع، وتستمر لمدة شهر، يمر كل منهم على سكان عمارته، والعمارات المجاورة،
تكتب كل أسرة طلباتها وأنواعها تحديدا، يُدفع ثمن السلع مقدما، توزع الأدوارعليهم جميعا،
شراء الخضروات من تجار الجملة، والسلع التمونية كالخبز والسمن والزيت والسكر والفاكهة،
وغيرها من الطلبات الخاصة، وبدأت الدعاية، فوجئوا بكثرة المشتركين، المفاجأة الأكبر
هى أن الناس يستعجلون البدأ فى تنفيذ المشروع.
وصل عدد المشتركين
إلى مائة مشترك، تحركوا،بعد سكون طويل، فى البداية أُصيبوا بالإرهاق، ولكنه إرهاق ممتع
ومفيد، استمروا فى الحركة والنشاط، سمعوا كلمات المدح والثناء، شجعهم الأباء والأمهات
على الإستمرار فى المشروع، تزاحم عليهم الناس للإشتراك فى المشروع، احتاجوا إلى عدد
من العمال ليساعدهم فى تلبية الطلبات التى كثُرت، اشتروا سيارة لنقل وتوصيل الطلبات
والسلع.
لم يمر سوى عام،
شرعوا فى انشاء مقر كبير لشركتهم، تجار الجملة باتوا هم اللذين يسعون إليهم، لعرض المشتريات
عليهم، تنوعت طلبات الأسر المشتركة، اشتهروا بين الناس بالأمانة والإخلاص فى التعامل،
مما جعلهم يشرعون فى افتتاح فرع لمقرشركتهم فى مكان آخر.
"10"الطريق إلى "جميلة"
مات أبوه عندما بلغ
عمره سنتين، لم يمر سوى عام تركته أمه مع خالته
ليعيش فى كنفها،
فلا مال معها ولا عائلة تحميها، لتتزوج من رجل اشترط عليها ألا تصطحب ابنها معها، بدأت
رحلة المعاناة واستمرت مع " سعد " منذ نعومة أظافره.
وُلد "سعد
"، أكرمه الله بذكاء حاد وهدوء شديد وخفة ظل، صفات تجبر كل من يقابله على حبه
واحترامه، لم يجد من يعمل على استغلال مواهبه الفذة فى التعليم،دون أن يحرضه أحد، قرر
أن يتسلل إلى الكُتاب المجاور لبيت خالته، يدس نفسه بين الأطفال المتزاحمين حول الشيخ،
الذى لم يمنعه من الحضور، يردد معهم آيات القرآن الكريم، سرعان ما يعود إلى خالته يُسمع
لها تلك الآيات التى حفظها سريعاً.
سُرت خالته لهذا
الأمر، قابلت شيخ الكُتاب لتوصيه على "سعد"، إنه طفل يتيم، وفى الوقت ذاته
فهو فقير، واذا ساعدته ووقفت معه، فسيكون لك أجران، أجر عن طفل فقير، وأجرآخر عن طفل
يتيم، هذا ما قالته له مازحة،حباً فى فعل الخير، ولنجابة الطفل التى رآها من قبل، وافق
الشيخ على ضمه لرواد الكتاب من الأطفال، دون مقابل، استطاع خلال فترة وجيزة أن يحفظ
نصف القرآن الكريم.
ولما بلغ عشر سنوات،
ألحقوه بدكان بقالة، عاش أياماً صعبة وظروفا قاسية، كان لا ينام الا قليلا، يستيقظ
ليبدأ العمل الشاق مبكرا، يأتى بالبضاعة من مصدرها، يحملها على كتفه لمسافات طويلة،
يرتبها على الأرفف، ينظف المكان، يمسح، يكنس، يبيع، يقيد فى الدفاتر، لا تضيع منه لحظة
الا وهو يقوم بعمل شاق، كل هذا الجهد المضنى مقابل دراهم معدودة.
اعتمد عليه صاحب
الدكان فى كل صغيرة وكبيرة، حتى بلغ عمره ثمانية عشر عاما،تعمقت الثقة فى "سعد"،
كان يعطيه مفاتيح الدكان،حينما يمر عليه كل صباح، يفتح الدكان حتى يلحقه، و فى المساء
يترك له الدكان، فيغلقه ثم يمر على بيته ليعطيه المفاتيح.
استشعر "سعد"أن
مكانته عند الرجل عالية،فهو كاتم أسراره، ومنفذ طلباته بدقة ودون تأخر، فاذا لم يعتبره
ابنه، فهو على الأقل يمثل رقما مهما فى حياة الرجل.
تصور "سعد"
أن علاقته المتميزة مع الرجل تؤهله، لموافقته على تزويجه لإبنته "جميلة"
التى كان يسميها أبوها بجميلة الجميلات، هذه الفتاة التى أحبها الفتى من طرف واحد،
فعزم أمره على طلب يدها من أبيها.
فجأة وبدون مقدمات
توجه بالحديث إلى صاحب المحل يطلب يد ابته له، وبلا تردد صاح فى وجهه غاضبا : كيف تجرؤ
على أن تفصح عن رغبتك تلك ؟، وهى بنت الأصول وذات الحسب والجمال، وأنت...أنت فقير و
بلا عائلة، ألا تعلم أنك تعمل أجيرا عند أبيها، استمر فى توبيخه، شتمه وسبه، سخر منه،
تهكم عليه، هدده إن فتح هذا الموضوع مرة أخرى فسوف يرى منه ما لا يُحمد عقباه، اشتد
غضبه فطرده دون أن يصفى حسابه معه، لم يعطه المبالغ الكبيرة التى كان يوفرها معه سنين
طويلة.
عاد "سعد"حزيناً
إلى المنزل الصغير الذى استأجره بمبلغ زهيد، مرت عليه الساعات كأنها شهور، كاد اليأس
يقتله.
فكر فى أن يترك البلدة
ويسير كالهائم لا يدرى مقصده، سلطه شيطانه أن ينتقم من الرجل المتكبر، الذى أهانه فيقتله،
هنا توقف عن التفكير العبثى، أفاق من غفلته، عاد إلى رشده.
وقبل أن يفكر جديا
فيما سيصنعه، قام وصلى ركعتين صلاة الحاجة، يدعو الله أن يفرج كربته ويهديه سواء السبيل.
تذكر أن معه كنزا
قيمته لا تقدر بمال، من أراد الدنيا فعليه به ومن أراد الآخرة فعليه به،ومن أرادهما
معا فعليه، إن معه القرآن الكريم، الذى أتم حفظه خلال أوقات الراحة من عمله الشاق.
انتهى إلى أن يفتح
كتابا لتحفيظ الأطفال القرآن الكريم، مقابل مبالغ مالية يشترى بها ما يسد به رمقه،
ويستر جسده، سرعان ما اجتمع عليه أطفال البلدة وشبابها، خلال أشهر معدودات نجح المشرع
نجاحا باهرا، ولكن طموحه لم يتوقف، ِلما لا ُيكمل تعليمه، وخاصة أن المال بدأ يتدفق
بين يديه، لم يفكر كثيرا.
فى السنة الأولى
أنهى "سعد" الدراسة الإبتدائية، وفى الثانية الدراسة
الإعدادية، حسب نظام
المنازل المعروف آنذاك، وبدأ فى المرحلة الثانوية، التى أنهاها بمجموع كبير.
يسر له حفظه للقرآن
الكريم الدراسة فى كل المراحل التعليمة، لغزارة معلوماته التى اكتسبها ممن تعلم على
يديه، تفسير،حديث شريف، فقه...، كان كُتابه قد اشتهر بين الناس وذاع صيته، وطور نظام
العمل فيه.
انتسب"سعد"
إلى كلية الحقوق، وبعد أربع سنوات كان الأول على دفعته، فعينوه معيدا فى هذه الكلية،
ثم أستاذا فى القانون، إلى أن أصبح عميدا لها، ولأنه لاينسى الفضل، فكان يشترى حاجياته
أسبوعيا من دكان البقالة الذى كان يعمل فيه، ويزور أهل البلدة، أصحاب الفضل عليه بعد
الله.
"11"نكهة النجاح
لم يره أحد من المتخصصين
الا وحكم عليه، بأنه لن يكون الا مذيعا تلفزيونيا، فنبرات صوت " سمير" مميزة،
ولديه قدرة هائلة على التأثير بالآخر، من خلات تعبيرات وجهه ، ونظرات عينيه، حديثه يجذب
قلوب مستمعيه، يتكلم اللغة العربية الفصحى، ببساطة ودون تكلف، ثقافته واسعة، متابع
جيد للأخبار السياسية، لا يكف عن القراءة فى مجالات عديدة.
أبدى الكثير إعجابهم
بموهبة "سمير" الفائقة، لِما رأوه من طريقة متميزة عند قيامه بتقديم فقرات
احتفال فى مناسبة دينية أو وطنية أو سياسية، منذ أن كان طالبا فى المدارس.
لم يستقبل
"سمير" الكثير من الإعجاب والثناء والمدح، بصورة من الإستعلاء والغرور، أخذ
الأمر على محمل الجد، لا تمر عليه ساعة الا واستفاد منها، استثمر جُل وقته فى الإطلاع
على الكتب المتخصصة فى المجال الإعلامى، من صحافة وتلفاز واذاعة،يبحث دائما عن الأماكن
العامة، التى يرتادها مشاهير الإعلاميين، لمقابلاتهم والتعرف عليهم، ومحاولة الإستفادة
من خبراتهم.
وحتى يحقق
"سمير" حُلمه التحق بكلية الإعلام - قسم اذاعة وتلفزيون -.
برز بموهبته وثقافته
الواسعة من بين الطلبة، فعرفه الأساتذة، أشادوا به، شجعوه، قدموا له نصائحهم، كانت
النصيحة المهمة ضمن كل النصائح الكثيرة، هى " ألا تيأس "، قالوا : لا تتوهم
أن طريقك مفروش بالورود والرياحين، طريق الإعلام صعب للغاية، إن لم تمتلك قدرة على
الصبر والصمود، فالأفضل لك أن تبحث عن طريق آخر.
حصل "سمير"
على الشهادة الجامعية فى مجال الإعلام - قسم اذاعة وتلفزيون-، ترتيبه التاسع على الكلية،
دقت ساعة العمل،دقت ساعة الإنطلاق لتحقيق حُلمه الذى لم يفارقه، شرع فى البحث عن وظيفة،
يقرأ الجرائد اليومية، وخاصة باب الإعلان عن الوظائف الشاغرة، ظل على هذا الحال سنة
كاملة.
لم يجد أية فرصة،
الا أن يعمل بائعا للكتب فى احدى المكتبات، رضى بذلك حتى يأتى الله له بالفرج، وأيضا
فهى فرصة ليستفيد بالوقت فى القراءة، مازال يتذكر نصيحة أساتذته فى الكلية، أن الطريق
صعب وشاق.
وبعد مرور السنة
التالية على تخرجه، قرأ "سمير" فى الجرئد إعلانا، عن قبول دفعة جديدة من
المذيعين فى التلفزيون، كاد قلبه يطير من الفرح،شرع فى الإستعداد للمقابلة بمراجعة
بعض الكتب، مع أنه لم يتوقف عن القراءة منذ سنوات.
بدأ العد التنازلى
ليوم المقابلة، هل سيكون هذا اليوم بدايةً لتحقيق الحُلم الذى تمنيت تحقيقه ؟ أم سيكون
بدايةَ مرحلة تعاسة أعيشها لسنوات طويلة ؟، هكذا ظل ليلةَ المقابلة يحدث نفسه مرات
عديدة - دون أن يسمعه أحد-، من شدة الإرهاق وطول السهر ليالٍ متتالية غلبه النوم.
أمام الغرفة المعدة
للمقابلة، حضر "سمير" مبكراً، وجد أعداداً غفيرة، تقدموا آملين أن يُعينوا
مذيعين، الطريف أن المطلوب عشرة فقط من المتقدمين والمتقدمات، اللذين يبلغ عددهم الألف
متقدم، قال لمن حوله، تحيا بلادنا الحرة، طبعا بطريقة ساخرة، معظم المتقدمين، يعرفونه،
لبروزه بينهم ابان فترة الجامعة، قال له أحدهم : طبعا ستكون أول المقبولين لتَميزك،
قال له : سَلم يارب سَلم، خوفاً من الحسد.
أمام لجنة القبول
وقف "سمير" ضمن عشرة متقدمين، فنظام الإختبار كل عشرة متقدمين يُختبرون معاً،
كان أفضلهم مستوى، وأسرعهم بديهة.
بهر أعضاء اللجنة
بإجاباته القوية، الا أنه هو الوحيد الذى سألوه عن وظيفة أبيه، أخبرهم بأن أباه يعمل
فلاحا، طأطأ رئيس اللجنة رأسه، وضع عينيه فى الأرض.
استشعر "سمير"
حقيقة الأمر، فالوساطة هى المعمول بها، وليست الكفاءة، انسحب من المقابلة، عرف النتيجة
مبكرا، لم يحزن على نفسه،بقدر حزنه على بلده،التى تسير فيها الأمور بطريقة تخلو من
العدل والمساواة، هل الفِلاحة عار على الفلاح، فلا ينبغى عليه أن يُعلم بها أحداً ؟.
سار "سمير"
فى الطريق، ماشياً على قدميه، رغم بُعد بيته عن المكان، إلى أن أُجهد، اشترى جريدة
الصباح، مع أن آذان الظهر قد حان موعده، استقل السيارة، فتح الجريدة، قرأ خبراًعجيبا،
انتحار شاب خريج كلية اقتصاد وعلوم سياسية، لرفض تعيينه فى السلك الدبلوماسى لعدم لياقته
اجتماعياً، رغم اجتيازه اختبارات القبول، ونجاحه بتفوق علي أقرانه المتقدمين!!!.، عندئذ،
قال لنفسه، يا للهول، أأضحك أم أبكى ؟، فى هذه اللحظة ينطبق علىَّ المثل المصرى الشعبى
" من يرى مصيبة غيره تهون عليه مصيبته "، الحمد لله أننى لم أفكر فى الإنتحار،
ضحك "سمير" والدموع تسيل من عينيه، لايدرى لأى سبب يضحك، أو لأى سبب يبكى.
مر عليه عشرة أيام
بعد المقابلة، عاشاها حزينا على وضعه المأساوى فى وطنه، فجأة وأثناء سيره فى الطريق،
متجها إلى المكتبة التى يعمل بها، قابل "سمير" أحد أساتذته فى الكلية، تذكره
فوراً، سأله عن أحواله، لم يتردد فى اخباره بكل ما حدث له، وعن حالته النفسية السيئة
التى يمر بها، ذكَّره بالنصيحة المهمة التى قدمها له الأساتذة، وهى "ألا تياس"،
أعطاه رقم هاتف أحد أصدقائه، من كبار الصحفيين، عسى ان يجد لك وظيفة فى جريدته التى
يعمل بها.
بعد مقابلة الصحفى
الكبير لـ "سمير" استشعر أن الحظ بدأ يبتسم له، وعده بوظيفة صغيرة فى قسم
التحقيقات فى الصحيفة، على الفور استلم العمل، وضع فيه كل طاقاته، كان مثالاً فى الإنضباط
والإلتزام فى العمل، لم يتعالَ فى طلب النصيحة من الصحفيين الأقدم منه فى العمل، يستقيد
من خبراتهم، حتى استطاع خلال ثلاثة أعوام أن يكون من أعمدة قسم التحقيقات فى الجريدة،
مازال حُلم المذيع التلفزيونى يراوده، ولكن أنَّى ذلك؟.
فى صبيحة يوم من
الأيام دخل على الصحفى "سمير"، صحفى حديث فى قسم التحقيقات، تبدو عليه أثار
الإرتباك، طلب منه خمسين جنيها قرضا ً، أخبره أن حافظة نقوده قد سُرقت أثناء مجيئه
للعمل، سريعا ودون تردد أعطاه المبلغ،لا يدرى "سمير" ما يخبؤه له القدر بسبب
هذا المبلغ القليل، وفى اليوم التالى رد المقترض المبلغ وشكره.
بعد مرور ثلاثة أسابيع
على واقعة القرض، رن جرس الهاتف فى مكتب الصحفى "سمير"، من معى ؟،أجاب الطالب
: أنا صاحب القناة الفضائية الجديدة، وسبب المكالمة أنى أرغب فى تعيينك مُقدما تلفزيونياً
لأحد البرامج السياسية المهمة، ولم أجد أفضل منك.
استهل المذيع التلفزيونى
"سمير" عمله فى القناة الجديدة، بعد أن وافقت له ادارة الجريدة، على إجازة
بدون مرتب لمدة ثلاث سنوات.
بعد أن أُذيعت الحلقات
الثلاث الأُول من برنامجه السياسى، انهالت الإعلانات التجارية على ادارة القناة الجديدة،فرح
صاحب القناة فرحا شديدا، اتصل به هاتفيا ليقدم له التهنئة بنجاح برنامجه الهائل، قال
له أنا لا أشكرك، بل أشكر من اقترح تعيينك فى قناتنا، إنه الصحفى الحديث، صاحب المبلغ
المقتَرض، ابن شقيقى، هنا تذوق "سمير" نكهة النجاح، بعد طول انتظار.

ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق