ثورة الديوك
(مجموعة قصصية)
(1)
ليته كان المرشح
إنه أول من تعرفت عليه من التلاميذ، فى
اليوم الأول الذى وطأت فيه قدماى مدرستى الإبتدائية، استمرت صداقتى معه حتى افترقنا،
بعد أن تخطينا معاً المرحلة الثانوية، ثم ذهب كلٌ منا فى طريق. ذكريات الطفولة البريئة،
والمواقف الإنسانية الجميلة التى عشناها معاً، ما تزال محفورةً في الذاكرة، لم تتأثر
لا بمرور الأيام والسنين، ولا بكثرة المشاكل والهموم.
لازلت أتذكر "ماهر" وهوماهرٌ
بالفعل – اسمٌ على مسمى - فلديه موهبةٌ فذة فى الخطابة منذ نعومة أظافره، ساعد في صقلها
و تنميتها خاله الذى كان يعمل مدرساً للغة العربية.
كان "ماهر" إذا أراد أن يخطب
فى الناس يقف مطمئن النفس هادئ البال قوى الجَنان غير هيَّاب ولاوجل.
فى حياة "ماهر" يومٌ لا يُنسى،
ذلك اليوم الذى حضر فيه إلى الفصل مفتش اللغة العربية، حينئذ كنت أنا و"ماهر"
فى السنة الأخيرة من التعليم الإبتدائى، يجمعنا مقعد واحد.
طلب المفتش منا - نحن التلاميذ - أن يُلقى
أحدنا كلمةً فى حب الوطن، تقدم الأول فتلعثم... وقف الآخر الذى لم ينطق سوى جملتين
فقط... صمت بعد أن احمر وجهه وتصبب عرقاُ... لم يستطع استكمال الكلمة.
طلب المفتش من الثالث...اعتذر على استحياء...وكما
اعتذر...فقد اعتذر الباقون.
أما التلميذ "ماهر" الذى بمجرد
أن أشارإليه المفتش، انطلق فى الحديث كالأسد المرعب... بهر المفتش الذي رأى فيه طلاقة
اللسان وسلاسة البيان وبلاغة الكلام.
فى هذه اللحظة أدخل المفتش يده فى جيبه
وأخرج منها ورقةً مالية من فئة الجنيه - يساوى الآن مبلغاً كبيراً - قال له : أُبشرك
يابُنى بمستقبلٍ باهر، ولكن احذر الغرور، ولا تفرط فى موهبتك، فموهبتك حُجةٌ عليك.
فى إحدى سنوات المرحلة الإعدادية تُوفى
مدرس الخط العربى داخل الفصل، وهو يلقى علينا درساً فى فن الخط العربى، كان المدرس
محبوباً من الجميع، من زملائه المدرسين ومن الطلاب، ومن العمال والإداريين، سيرته الطيبة
لا يجادل فيها أحد، يتمتع بأخلاق حميدة، يتفانى فى أدائه لدروسه.
فى صباح اليوم التالى للوفاة وقف
"ماهر" بتلقائيته المعروفة، يتحدث فى طابور الصباح كلمته المعتادة، فإذا
به يتكلم باكياً عن مدرس الخط، لم يبكِ الحضور تأثراً ببكاء "ماهر" فحسب،
ولكنهم بكوا أيضاً على ما ساقه من مواقف نبيلة لهذ الرجل وعن دماثة خلقه، وكأنهم يسمعون
عنها لأول مرة، ذكَّرهم بمآثر المتوفَى ومعاملاته الراقية، التى مازالت راسخةً فى ذاكرتهم،
وكأنه لا يزال بينهم حياً يُرزق
.
وبعد أن أنهى كلمته لم يتوقف الجميع عن
البكاء، هُرع إليه كل من كان فى فناء المدرسة، لا ليحيوه على كلمته الرائعة فحسب، وإنما
ليقدموا له التعازى، وكأنه أحد أفراد أسرته.
استمر "ماهر" فى تفوقه الدراسى
فى المرحلة الثانوية، ولم ينسَ أن ينمى موهبته الفذة فى الخطابة والقدرة على التحدث
بجاذبية مع كل من يلتقى به، من خلال توجيهات خاله بقراءة كتبٍ بعينها، ومتابعته فى
أدائه للخُطب والدروس التى كان يلقيها فى بعض الزوايا والمساجد الصغيرة.
فى تلك المرحلة ذاع صيته فى الخطابة، واشتهراسمه
بين الناس كخطيبٍ مميز، حتى أن كثيراً من محبيه – وما أكثرَهم – سموَه كشك الصغير،
على أمل أن يصل فى علمه و شهرته إلى خطيب القرن الشيخ عبد الحميد كشك.
من باب حب الإستطلاع ذهبت لحضور مؤتمرٍ
إنتخابى لأحد المرشحين للبرلمان، وجدت المكان يضج بالحاضرين بالرغم من برودة الجو وتأخر
موعد المؤتمر، عدة آلاف من أهل المدينة توافدوا على المكان، بصعوبةٍ بالغة تمكنت من
الفوز بمقعد، جلست عليه سعيدا.
تصفحت العديد من الوجوه،أعرف كثيراً منهم...
معظمهم ليس لهم فى السياسة، ولا تأثيرَ لهم فى العملية الإنتخابية، بل إن منهم العدد
الأكبر من صغار السن... تيقنت أن هناك من حرضهم على هذا التواجد المكثف، ولا يخفى على
ذوى الألباب أن الهدف من وراء ذلك هو تكثير عدد الحضور.
وبعد أكثر من ساعة حضر المرشح ومعه عشرة
من المرافقين له، جلس بعضهم على المنصة... بجوار المرشح رأيت شخصا، حدثتنى نفسى...
ربما أعرفه.
بعد عدة لحظات عرفته...إنه صديقى القديم"ماهر"،الذى
لم أره منذ ما يقرب من عشرين عاما، علمت من قبل أنه كان يعمل بإحدى الدول العربية،
فى إحدى الوزارات المهمة، فتح الله عليه أبواب الرزق الوسيعة.
.
حدثتنى نفسى...ما هى علاقته بالمرشح أوبالسياسة
؟، فأنا لم أسمع عنه طوال عمرى أن له باعاً فى الأمور السياسية... ولا أعرف أنه على
علاقة بالمرشح – صاحب المؤتمر – هذا المرشح ليس منتمياً للحزب الحاكم وفقط، وإنما هو
من رموزه الشهيرة.
ربما لا يكون هذا المرشح من الفاسدين فى
النظام، ولكنه على كل الأحوال من رجالات هذا الحزب الفاسد، من الذى أتى بصديقى إلى
هنا ؟ ومن الذى أقنعه بحضور هذا المؤتمر؟، صديقى رجل المبادىء والمواقف المحترمة -
كما عرفته منذ أمدٍ بعيد -...... تساؤلات ظلت تراودنى من حين لآخر... لم تفارقنى حتى
الإعلان عن بداية المؤتمر.
بدأ المؤتمر بوقوف شابٍ يقدم المتحدثين،
ثم وقف رجل يُلقى كلمةَ ترحيب بالضيوف، كلمة عادية لاطعم لها ولا رائحة، ثم جاء الدور
على صديقى "ماهر" ليُلقى كلمته، بدأ بمقدمة...سرعان ما شدَّت إنتباه الحضور،
وأجبرتهم حلاوة عباراته على الإنصات، مما أشعرهم بدفء الجو رغم برودته.
تحدث "ماهر" فى البداية فى الشئون
السياسية وكأنه أحد السفراء أو وزيرٌ للخارجية، وسط انبهار الحاضرين، والذين لم يتوقفوا
عن التصفيق.
انتقل إلى الحديث عن الأمور الإقتصادية،
فبالرغم من صعوبة مصطلحاتها، إلا أنهم تفاعلوا معه لقدرته الفائقة على تبسيطها، وكذلك
تطرق إلى المجالات الإعلامية والتعليمية وغيرها، بالحديث عنها بأسلوب يبهر المثقف ويقنع
الرجل العادى.
اتجه إلى الحديث عن المشكلات الحياتية التى
يعانى منها الناس، فأيقنوا أن هذا الرجل يتحدث باسمهم، إنه واحدٌ منهم رغم أن كثيراً
منهم لايعرفونه لغيابه عن أرض الوطن سنين طويلة.
ظن كثير من الحضور أن "ماهر"
هو المرشح، رغم أن الشاب الذى قدَّم للمؤتمر أشار إلى المرشح وعرَّفهم به، إلا أن انبهارهم
بشخصيته وبحديثه أعماهم عن الحقيقة، فاذا بهم يهتفون...ماهر..ماهر...ماهر...
هنا احمر وجه المرشح، وقع "ماهر"
فى حرجٌ كبير، لأنه فى الحقيقة لايقصد ذلك... فقد التركيز للحظات قليلة...مرت عليه
كأنها ساعة، استجمع قواه وتركيزه مرةً أخرى.
هنا تذكر ما تعلمه منذ نعومة أظافره، أن
الخطيب الحصيف هو الذى يراعى مقتضى الحال فى جميع أحاديثه وكلماته، فلكل مقامٍ مقال،
فالجماعة الثائرة الهائجة تُخاطب بعبارات هادئة لتكون برداً وسلاماً على القلوب
.
استأنف "ماهر" حديثه بهدوء...
وطلب منهم التوقف عن الهتافات والتصفيق، قال لهم : أحبائى الإخوة... إخوانى الأحبة...
أنا لست مرشحاً ولا أرغب فى الترشح للبرلمان، وإنما المرشح هو هذا الرجل، وأشار إلى
المرشح...ربما تندهشون، وربما تقولون : وما الذى دعاك للحديث فى هذا المؤتمر؟، فأقول
لكم : إن الذى دعانى للحديث أمامكم هو هذا المرشح، وهو صديقٌ قديم لى، أقسم على أن
أتحدث فيكم بالرغم من علمه بصراحتى.
تنهد "ماهر"، واستأنف حديثه قائلا
: فكنت بين خيارين لا ثالث لهما، أحلاهما مر، إما أن أرفض طلبه ولا أبرَّ بيمينه، وهذا
أمر صعبٌ علىَّ، وإما أن أُلبى طلبه، وآتى إلى هنا وأتكلم، ولكنى لا أتكلم – والحمد
لله – إلا الحق...فالبرغم من صداقتى لهذا المرشح إلا أننى لست من أنصاره ولا من مؤيديه،
ولست مقتنعا بمبادىء حزبه، فأنا من المعارضين لهذا الحزب الجاثم على صدور الناس، ومن
المطالبين باسقاطه ورحيله.
ارتفع صوت "ماهر" مدوياً... أكمل
حديثه بقوله : إن هذا الحزب نشر الفساد فى البلاد، وأفقر العباد، جعل من الوطن سجناً
لأبنائه، نُزعت الرحمة من قلوب أعضائه، فنهبوا الأموال وخرَّبوا الديار، وأنا أُعلنها
الآن : على هذا الحزب أن يغرب عن وجوهنا، وأن يترك للشعب الأبى حكم البلاد... وهذا
هو موقفى.
أثارت كلماته القوية مشاعر الناس مرةً أخرى،
ولكنها بصورة أشد...قالوا له : ليتك كنت المرشح.
استمرت الهتافات الحماسية... فليسقط الحزب
الحاكم...وليسقط رئيسه...انقلب الحضور بين لحظة وأختها من مؤيدين للحزب الحاكم إلى
مناوئين له ومطالبين برحيله.
وعلى غير المتوقع، وعلى غير المعتاد، وقف
المرشح - صاحب المؤتمر - شامخا، طالباً من الناس الجلوس والهدوء، قال لهم بكل ثقة
: قبل بدء هذا المؤتمر، وقبل حضور هذا الرجل العظيم - صديقى القديم - كان لى موقف...أما
الآن فلى موقف آخر...
لم أتأثر فى حياتى مثلما تأثرت بكلمات هذا
الرجل، لم يستطع أحد – طوال عمرى – أن يُغير موقفى ويوجهنى إلى طريق آخر سوى هذا الرجل.
إننى منذ أن انضممت إلى هذا الحزب الفاسد،
لم أفكر مطلقاً إلا فى نفسى وفقط... لم أفكر إلا فى الوصول إلى مقعد البرلمان، وليكن
ما يكون... ليس من ضمن اهتماماتى أية حلول لمشاكلكم - وما أكثرها -... ليس للوطن فى
قلبى مكان، الناخبون فى نظرى - وفى نظر الحزب الحاكم - مجرد وسيلة للوصول للغاية المنشودة...
نخدعهم بالوعود البراقة والشعارات الكاذبة أيام الإنتخابات، وبمجرد إنتهائها تعود ريمة
إلى عادتها القديمة... سرعان ما ينسى الناس ما وُعدوا به.... وأنا كذلك من هذا المنبر
أعلنها أمامكم الآن - وبكل قوة وبكل وضوح - أننى منسحب من سباق هذه الإنتخابات الزائفة...
ليس هذا فحسب، ولكنى أعلن انضمامى للشرفاء المعارضين لهذا الحزب الكاذب.
تصفيق مستمر وهتافات مدوية من الحضور، زلزلت
أركان المدينة، تجمع على أثرها معظم ساكنيها، هُرعوا إلى مكان المؤتمر، فرحين بما حدث...
مجمعين على حتمية إسقاط النظام الحاكم...إنهم جميعا كانوا لا يدرون وقتها أنهم أشعلوا
أول شرارة ثورة الكرامة.
كانت تلك الأحداث مفاجئة لقوات الشرطة التى
جاءت لتحرس المؤتمر، وتحمى مرشح الحزب الحاكم... ارتبك رجال الشرطة...ترددوا....تساءلوا
فيما بينهم ماذا يفعلون ؟...إنهم فى حرج شديد...هل هم مع المؤتمر أم ضده ؟... لم يَدم
تساؤلهم كثيراً، فسرعان ما جاءتهم الأوامر باقتحام منصة المؤتمر... وأن يقبضواعلى ذلك
الرجل - الذى أهان النظام واسهزى بالحزب الحاكم -، وأن يزجوا به فى السجن.
.
وقبل أن ينفذ قائد قوات الشرطة الأوامر
التى وصلته، فكر لثوانٍ قليلة... سبحان الله...سبحان مغير الأحوال ومقلب الأمور...
مؤتمر أُعد له بدقة...أُنفق عليه ببذخ... جُمع له الناس بكثرة... مؤتمر لا يُسمح لغير
رجا ل النظام ومرشحيه بإقامته... خلال لحظات قليلة ينقلب إلى مظاهرة شعبية ضد الحزب
والنظام والرئيس !!!
بعد أن قام قائد قوات الشرطة بتنفيذ الأوامر...
بالقبض على "ماهر" وإيداعه السجن... لم يمر سوى وقتٍ قليل عاد القائد لينفذ
أوامر جديدة، بهدم السرادق الذى أُقيم فيه المؤتمر، والذهاب فورا إلى بيت المرشح، ليلحق
بالصديق "ماهر" فى زنزانة واحدة.
أما أنا فقبل هذا المؤتمر لم يكن لى شأنٌ
بالسياسة، ومن يومها أصبحت أتكلم فى السياسة وأتنفس السياسة....وتغيرت أحلامى فى المنام
كبقية الشعب فباتت أحلاماً سياسية... أحلاماً ثورية... سرعان ما انفلبت إلى خواطر ثم
إلى احتمالات ثم أضحت حقيقةً لا خيالا...إنها ثورة الكرامة والتى مازالت مستمرة.
(2)العودة
استقلت الطائرة،عائدة إلى أرض الوطن، إلى
الدفء والحنان والعطف،مع زوجها، إلى عُش الزوجية الذى لم تمكث فيه سوى عام واحد، بعده
عاشت فى الغربة، خمس سنوات متتالية، مرت عليها
بطيئة مملة، قاسية، تحركت الطائرة، ثم ارتفعت، رويدا، رويدا، تذكرت يوم عُرض عليها
عقد عمل، بإحدى الدول الخليجية، ممرضة بمستشفى شهير، راتب مغر، ترددت، راغبة فى الحفاظ
على عُش الزوجية، حرضها الزوج على القبول والتعاقد فوراً... مر عليها العام الأول ثقيلا
مملا، أبدت له رغبتها فى العودة، إجازة سنوية، أو تنهى تعاقدها لتعيش معه، رفض طلبها،
حرضها على الاستمرار، والصبر على الغربة والفراق، أملا فى تحقيق أحلامهما المشتركة،
منزل جميل، سيارة فارهة، شاليه على البحر، حساب كبير فى البنك، كل هذا من أموالها التى
تتدفق عليه شهريا، لم يتبقَ على استكمال سعادتها معه، إلا أن تُرزق منه الأبناء، فى
الموعد المحدد هبطت الطائرة على أرض المطار، لم تجد حبيب القلب فى استقبالها، التمست
له الأعذار، توجهت إلى البيت فورا، دقت جرس الباب، فتحت لها إمرأة، تحمل طفلا ويمسك
بثوبها آخران، دققت النظر فيها، إنها صديقتها الأولى، كاتمة أسرارها، أخبرتها أنها
تزوجته، بعد أن طلقها غيابيا، وهي فى الغربة،
أُغمى عليها، أفاقت بعدها بثلاثة أيام، وهى مستلقية على سرير، بإحدى المستشفيات النفسية.
(3)
ابن السجين
أرادت مشيئة الله أن يكون أبوه قابعا خلف
أسوار السجن، المغلقة أبوابه ونوافذه باحكام،يعد عليه الحارس حركاته وأنفاسه، حبسوه
ظلما وعدوانا، تهمة أبيه التى أقضت مضاجعهم اصراره على اداء صلاة الفجر، فى المسجد
الذى هجره غالبية الناس، وكذلك ادمانه قراءة القرآن الكريم،الذى اتخذه الكثير مهجورا،
الناس يرون أباه قرآنا يمشى بينهم، ابن السجين، لايأبه به الكثير من الناس، فأبوه على
قيد الحياة، لم يفقده مطلقا، فقد يعود إليه يوما ما، نسوا أو تناسوا أن أحواله ربما
تكون أصعب من أحوال اليتيم،الذى عادةً ما يكون فى بؤرة شعورهم، فقيرا كان أم غنيا،أمه
تأبى أن يطلع على أحوالهم القاسية أحد من البشر،فهم جهلاء، يحسبونهم أغنياء من التعفف،عمه
الذى يسكن فى بيت ملاصق لبيتهم، شغلته أمواله وأولاده عنهم، لايطعمهم أو يسقيهم، وهو
يراهم يتضورون جوعا وعطشا،واذا سأل عنهم أحد، كانت اجابته الفورية أنهم فى أحسن حال،
فى ظهيرة يوم من أيام الصيف الحارة، بعفوية دخل الطفل الصغير ” ابن السجين ” بيت عمه،
رأى زوجة عمه تقلى السمك باعداد كبيرة، لم يره فى بيته منذ سنتين،جذبته رائحته النفاذة،
اشتهى أن يأكل سمكة، اقترب منها رويدا رويدا، فلما رأته نهرته وطردته بغلظة، عاد الطفل
الى أمه أسِفا، يتمنى أن يصرخ أو يبكى ولكنه لا يستطيع، فهمت ما حدث دون أن يحكى لها
ابنها، فقد شمت رائحة السمك المقلى، لم تستطع منع دموعها التى سالت على خديها،تركته
وذهبت الى المطبخ تبحث له عن شىء ينسيه قسوة ما حدث،عادت اليه بعد برهة من الزمن، لترى
العجب العجاب، سمكة مقلية بين يدى ولدها، يأكلها بشغف، كانت قد التقطتها قطة خلسة،
من أمام زوجة العم،التى ضربتها بالعصى ضربة قوية، فرت هاربة بلا هدف، لتدخل بيت السجين،
وتلقى بالسمكة دون وعىٍ أمام الطفل المحروم،فى اللحظة ذاتها، أتت احدى جارتها لتعطيها
خمس بيضات – مساعدةً منها -، لم تجد مفرا من أن تحرم أسرتها من هذا البيض، وترسله الى
بيت العم مقابل السمكة..
(4)حذاء الرئيس
"1"
فى صباح يوم شتاء شديد البرودة، الساعة
السابعة والنصف يدخل فريق مستشارى الرئيس إلى القصر الرئاسى المنيف، يتوجهون سريعا
صوب قاعة الاجتماعات الفخمة.
كل عضو من أعضاء المجلس الإستشارى يجلس
فى مكانه المحدد، يضع أمامه ملفه الخاص، به أوراق ومستندات مهمة، تحمل معلومات دقيقة،
سيعرضها على الرئيس.
كالمعتاد يجلس الأعضاء معاً قبل بدء الاجتماع
بمدة طويلة، لابد من الاستعداد النفسى، إنهم يتهيأون لاستقبال الرئيس، يرتبون أوراقهم،
ينسقون فيما بينهم، يؤكدون عما سيتحدثون فيه، يحذرون من الخروج على النص، وإلا...
خارج القاعة الجميع على أُهبة الاستعداد،
الإضاءة، المقاعد، التكييف...، ليكون هذا الاجتماع حسبما يرغب الرئيس، وإلا سمعوا أو
رأوا ما يخشونه، وأقله الطرد من قصر الرئيس بلا عودة، وفى حالة غضب الرئيس يكون الطرد
إلى مكان مجهول، ربما لاتُرى فيه الشمس ولا تطؤه قدم إنسان.
فى الموعد المحدد فى الساعة التاسعة صباحا،
يدخل الرئيس مكتبه منتشيا فخورا كعادته، تعلو وجهه ابتسامة، الجميع فى انتظاره، كل
فى مكانه المحدد، كل قام بما هو مكلف به على وجه الدقة.
الهدف الوحيد من هذا الاجتماع هو مناقشة
التعديل الوزارى المرتقب، مستشارو الرئيس سيقدمون له أسماء الوزراء المقترحين ولكل
وزير أربعة بدلاء، وأمام كل اسم مختصر لسيرته الذاتية، يختار الرئيس من يريد ويرفض
من يريد، دون أن ينبس أحدهم ببنت شفة.
شرع كبير المستشارين فى عرض الأسماء الأساسية
والاحتياطية لخمس وزارات، لم يرد الرئيس واحدا من المرشحين الأساسيين، لمعرفته الجيدة
بتلك الشخصيات، فقد تعامل معهم من قبل فى وزارات مختلفة.
ارتسمت على وجوههم ابتسامات عريضة، لم يصدقوا
أنهم انتهوا من اختيار خمسة وزراء فى توقيت قياسى.
استأنفوا عرض الأسماء المقترحة، عرضوا اسم
الوزير المرشح الأساسى لوزارة التربية والتعليم، الذى ظنوا أن الرئيس سوف يوافق عليه،
دون أى مناقشة، إنه كنزعظيم تفخر أى دولة بأن يكون هذا الرجل من مواطنيها.
السيرة الذاتية لهذا الشخص مختلفة، يمتلك
مواهب فذة، ذكروا اسمه، مؤهلاته، خبراته، الرجل من أشهر العلماء عالميا فى مجال التربية
والتعليم، ترك أمريكا لأسباب خاصة - بعد أن قضى فيها ربع قرن - على الرغم من النجاحات
الهائلة التى حققها هناك، لم يوافقوا على رحيله إلا بعد إصراره.
ذكروا تاريخ ميلاده، محل إقامته الحالى،
محل الميلاد، غاب عن مستشارى الرئيس أن ذلك الشخص ينتمى إلى ذات المنطقة التى ينتمى
لها الرئيس، و كذلك فإن سنة ميلاده هى سنة ميلاد الرئيس.
فجأة تغير وجه الرئيس، شرد ذهنه لبرهة،
تغير وجهه، بدت عليه علامات الغضب الشديد، صرخ صرخة مدوية، كأن سكينا اخترق صدره.
ما الأمر - سيادة الرئيس - ؟ (على استحياء
سأل كبير المستشارين).
لم يرد عليه الرئيس.
سيطر السكون على المكان، لم يجرؤ أحدهم
على أن ينطق بكلمة.
مرت بضع دقائق، بصوت جهورى نطق الرئيس:
احضرو لى هذا الشخص حيا أو ميتا الساعة الثانية والنصف بعد متنصف هذه الليلة.
تركهم الرئيس دون أن يخبرهم بفض الاجتماع.
"2"
على صوت الرئيس المدوى هُرع إلى قاعة الاجتماعات
كبار رجال القصر، استدعوا قادة الأجهزة الأمنية المختلفة، أربع جهات أمنية شاركت فى
وضع التقارير الأمنية عن جميع المرشحين للوزارة، أساسيين كانوا أم احتياطيين، ومن هذه
التقارير قُدم للرئيس مختصر السيرة الذاتية لكل مرشح.
كل من له صلة بهذه التقارير أصابه الفزع
والخوف، مما قد يحدث له، نتيجة هذه السقطة الكبرى، تبادلوا الاتهامات، كل يلوم الآخر،
كل ينفى تقصيره، بعد مدة زمنية ليست طويلة، ذهبت آثار الصدمة، اتفقوا على مناقشة الأمر
بموضوعية، توصلوا بعد مناقشات طويلة إلى أن أحدهم لم يقصر، أجمعوا على أنهم سيتحملون
المسئولية معا، وليكن ما يكون.
الأمر فيه سر، لايعرفه أحد من البشر إلا
الرئيس، ومع ذلك فسوف يتأكد كل منهم من المعلومات التى وردت فى تقريره.
سريعا وبعد أقل من ساعتين، اجتمعوا مرة
أخرى، أكدوا جميعا أن الشخص المطلوب إحضاره حيا أو ميتا، ليست له انتماءات دينية أو
إيديولوجية أو سياسية،إلا أنه رجل حقق فى حياته نجاحات منقطعة النظير.
قال بعضهم لبعض : ربما تكون هذه النجاحات
هى مشكلته الكبرى، وعلينا أن ننفذ الأوامر طاعة للرئيس، أمروا قوات الأمن بإحضاره فورا.
"3"
بعد تناوله وجبة العشاء جلس الدكتور
"أسعد" وسط أفراد أسرته، فى الطابق الثانى من الفيلا التى يمتلكها، بأحد
الأحياء الراقية وسط العاصمة، أثناء متابعتهم نشرة الأخبار، علموا أن الإعلان عن التشكيل
الوزارى الجديد سيُعلن عنه خلال ثمانى وأربعين ساعة.
بصورة عفوية سأل الابن الأصغر: ماذا ستفعل
يا أبى لو عرضوا عليك منصبا وزاريا ؟. لم يفكر الدكتور "أسعد" طويلا فى الرد.
أجاب : بالطبع سأرفض.
ولماذا يا أبى ؟( سأله ابنه مرة أخرى).
أجاب الأب : يا بنى...السياسة فى بلادنا
شعارها " سمك - لبن - تمرهندى"، لو أصبحت وزيرا فسوف أكون بمثابة سكرتير
للرئيس أنفذ أوامره، حتى ولو غير منطقية، فى بلادنا المهم ارضاء الرئيس لا ارضاء الضمير.
بنبرة حزينة أكمل الأب حديثه قائلا : يا
بنى... العالم من حولنا يتقدم ونحن فى تقهقر، أتعرف لماذا ؟، لأننا نعرف طريق التقدم
ولا نسير فيه، ونعرف أننا نسير فى طريق الفشل ونصر على عدم التراجع.
فى بلادنا الرئيس يهدم كل ما قام به سلفه
وكذلك الوزير، ليست لنا سياسات واضحة...
لم يكمل الرجل حواره مع ابنه، فوجىء مع
باقى أفراد الأسرة بمكبرات الصوت تنادى : على الدكتور أسعد الحضور أمام باب منزله فورا
ودون تأخير، وإلا سنقتحم المكان، خمس سيارات مصفحة محملة بالجنود المددجين بالسلاح،
بصحبة العديد من قيادات أمنية، تحيط بالفيلا من جميع الجهات، دون أن يُغير الرجل ملابسه
خرج، وهو لا يكاد يصدق ما يجرى.
اقتادوه بلا احترام أو تقدير لمكانته العلمية
أو الأدبية، دون النظر لحالته الصحية أو لكبر سنه، الرجل يكاد يصاب بالجنون، لا يدرى
ما السبب فيما حدث، ومهما حدث فهل هذه هى الطريقة اللائقة لاستدعائه لأى جهة، لم يخبره
أحد عن السبب وراء هذا الهجوم التترى، بل لم يحدثه أحد من الأصل.
"4"
فى إحدى الغرف الضيقة المظلمة ألقوا به،
بعد أن غطوا عينيه بعصابة سوداء، تركوه لأكثر من ساعة، أصابته قشعريرة، الجو شديد البرودة
كأنه يجلس عاريا فى شارع من شوارع موسكو.
مازال الرجل مندهشا مما يحدث له،عاش أكثر
من ربع قرن فى أمريكا لم يرَ ما يراه الآن، تذكر ما كان يقرؤه عن وحشية التعذيب التى
يلاقيها المعارضون للنظام فى بلاده، لكنه لم يشارك هؤلاء المعارضين، لم يلتقِ بأحدهم،
لم يراسل واحدا منهم، ماذا جرى ؟.
فجأة فُتح باب الغرفة،سمع صوت خطوات تقترب
منه شيئا فشيئا، فاذا بشخص يقف أمامه، يوجه له الحديث قائلا : يادكتور نحن نأسف لما
حدث لك، وهذا الأمر خارج عن إرادتنا، إننا نعلم عنك كل صغيرة وكل كبيرة، ونحن متأكدون
من أنك لا تعادى النظام، ولست من المعارضين، بل ولا تعتنق أية توجهات سياسية مخالفة
لنا.
رد عليه الدكتور " أسعد" بصوت
خافت : إذاً أين هى المشكلة ؟.
قال : لم تكن لك مشكلة مع أحد، ولكن واضح
أن لك مشكلةً مع سيادة الرئيس نفسه، نحن لا نعرفها، ولم يخبرنا بها، وهذا هو سبب المجىء
بك، فلتخبرنا عنها.
تحدث الدكتور "أسعد" بصوت مرتعش
: أنا ليس لى مشكلة مع أحد من البشر، لا مع الرئيس ولا مع غيره، ولم تربطنى فى يوم
من الأيام علاقة بشخص الرئيس، لا من قريب ولا من بعيد، اللهم إلا أنه كان زميلا لى
فى التعليم الأساسى، طفلان فى فصل واحد، لمدة ثلاث سنوات، قضيتها فى قريتى، ثم انتقل
أبى بأسرتنا كلها إلى العاصمة، ولم تعد لى علاقة بقريتى إلا فى المناسبات فقط، ولم
أعد أتذكر شيئا سوى أسماء التلامذة زملائى فى الفصل، ومنها اسم الرئيس خماسيا.
تنهد قليلا ثم استأنف حديثه...
وعلمت كما علم الناس باسمه يوم تولى حكم
البلاد، ومرت الأيام والسنون ولم ألتقِ به فى يوم من الأيام، ولم أسعَ للقائه، لم أتفاخر
بزمالتى للرئيس أمام أى شخص حتى أبنائى.
الشخص المجهول الذى يسمعه الدكتور
"أسعد" ولا يراه هو الوحيد الذى تحدث معه بأسلوب فيه شىء من الاحترام، هذا
الشخص فى نهاية حواره معه حاول أن يُهدئ من روعه ويطيب خاطره، أخبره بأنه سيقابل الرئيس
بعد أقل من ساعة بملابسه التى حضر بها، وقد صارت رائحتها كريهة، حذره من الخروج على
النص.
إذا دخلت على الرئيس فلا تتكلم، إلا إذا
طلب منك الكلام أو سألك سؤالا، التزم بتوجيهات رجل الأمن المرافق لك، ولا تضعنا وتضع
نفسك فى مواقف محرجة، ختم الرجل حديثه معه، تركه وحيدا فى الغرفة وخرج.
"5"
اقترب الوقت من الساعة الثانية والنصف صباحا،
كان الدكتور " أسعد" قد أُصيب بالإجهاد والتعب من كثرة وقسوة ما تعرض له
من مواقف مهينة، ساءت حالته النفسية، لم يُصب من قبل بمثل هذه الإهانات التى تعرض لها
هذه الليلة، لم تنسه هذه المواقف اللاإنسانية القاسية التفكير فى أسرته، إنه قلق على
زوجته وأولاده، ماذا حدث لهم ؟، هل يُفعل معهم ما يُفعل معى الآن ؟، هل يتعرضون لمثل
هذه المواقف المهينة كما أتعرض لها ؟ أسئلة ظلت تراوده فى ذلك الوقت العصيب.
وجاء الموعد، موعد لقاء الرئيس، ولكنه لقاء
مختلف، الرئيس هو الذى طلبه، وحده سيلتقى بالرئيس دون أن تُنصب الكاميرت لتصوير اللقاء،
حتى الملابس ليتها غير لائقة وفقط، لكنها ملابس رثة قذرة، ليست من قيمة الرجل العالم.
بعد أن رفعوا العصابة عن عينيه، أدخلوه
إلى غرفة واسعة، إضاءة خافتة فى مدخلها، وفى آخرها يظهر من بعيد رجل يجلس على مقعد،
يمد رجليه على منضدة صغيرة منتعلا حذاءً فخما، الأضواء الشديدة مسلطة صوب الحذاء بصورة
مركزة.
على الرغم من الارتباك الذى تملكه، إلا
أنه تذكر ماركة هذا الحذاء، إنها الماركة الأمريكية الشهيرة، تذكر ثمنه، الذى يقارب
العشرين ألف دولار أمريكى.
أدار عينيه بعيدا عن الحذاء، ليرى منتعله،
تبين بكل وضوح، إنه فخامة الرئيس، التقت عيناه بعينيه، لجزء من الثانية، نظر إليه الرئيس
نظرة استعلاء، لم يعره اهتماما، همت نفسه بالكلام، يرغب فى أن يشكو للرئيس ما حدث له
من إهانات، لكنه تذكر وصايا الرجل الذى تحدث معه ولم يره.
بعد أن تأكد أن الزائر قد رآه رأى العين،
أشار الرئيس بيده لرجل الأمن المرافق للدكتور " أسعد"، إشارة تفيد بأن أخرجوه
فورا ودون تأخير، لم تدم تلك المقابلة سوى دقيقتين أو أقل.
"6"
فى تمام الساعة الثالثة إلا ربع فجرا...ألقوا
بالدكتور "أسعد" بعيدا عن القصر الرئاسى، بما يزيد عن مسافة ثلاثة كيلومترات.
وجد نفسه وحيدا، فى مكان بارد موحش، يكاد
لا يرى شيئا، المكان يكسوه الظلام الدامس والصمت المرعب.
قال لنفسه : من الممكن أن أموت هنا ولا
أحد يرانى أو يعرف بوجودى، وليس معى هويتى الشخصية.
أحس بالدوار، ثارت نفسه للقىء، كاد يفقد
توازنه، حاول أن يلملم أشلاء نفسه، التفت يمينا والتفت يسارا، عسى أن يجد سيارة تقله
إلى بيته، ليس معه مال، لا يوجد معه رفيق، ملابسه التى لم يسمحوا له بتغييرها، باتت
وكأنها ملابس شحاذ، أو ملابس مجنون يسير هائما على وجهه فى الشوارع.
وقف فى عُرض الشارع أكثر من ساعة، يعانى
من قسوة البرد القارس، من شدة الخوف، ثم جاءت سيارة، اصطحبه قائدها معه، بالطبع لم
يعلم حكايته، وإلا ما أركبه سيارته.
كانت الأسرة فى انتظاره، قلق ورعب و خوف،
أجروا اتصالات كثيرة بالعديد من الأقارب والأصدقاء، من ذوى المراكز المرموقة والمناصب
الكبرى فى البلاد، غير أن جميعهم لم يردوا، إلا واحد منهم أجاب على استحياء، تحدث بصوت
خفيض مرتجف وقال : إن الموضوع أكبر منه، ولا يستطيع أن يفعل شيئا، وإلا أُطيح به من
منصبه، وأُلقى به فى المكان المعتاد للمغضوب عليهم من النظام.
"7"
أمام باب الفيلا، الزوجة والأولاد ينتظرون،
لم يناموا ليلتهم، وكأنهم كانوا يشاركون الأب مأساته، التى عاشها وحده الليلة الفائتة،
ظلمة ما بعد الفجر تودع الكون، تلفظ أنفاسها الأخيرة، بدأ ضوء النهار يتجلى، يبدد تلك
الظلمة حتى يستطيع بقدر الله أن يمحوها، فيرى الناس بعضهم بعضا.
لم يمر وقت طويل، رأوا شبح رجل خمسينى يتجه
صوبهم، تدريجيا استطاعوا أن يتعرفوا عليه، إنه الدكتور" أسعد"، هُرعوا جميعا
إليه، بمجرد أن وصلوا إليه أُغمى عليه، سريعا طلبوا له سيارة الإسعاف، انطلقت به إلى
المستشفى،إلى غرفة العناية المركزة أدخلوه.
مرت ست ساعات طوال، والرجل ما بين الحياة
والموت - كما قال الأطباء عن الحالة -، تدريجيا تحسنت حالته، اطمأنوا عليه، نقلوه إلى
إحدى غرف المستشفى، دخل عليه أفراد أسرته، لم يكلمهم، ولم يرد عليهم إلا بالإشارة بيديه،
رغم قدرته على الكلام.
الموقف ليس موقف كلام، ولكنه موقف تفكر
وتدبر، ماذا حدث لى ؟ ولماذا حدث ؟ ولماذا معى أنا بالذات ؟، ولماذا حدث ذلك الآن ولم
يحدث من قبل ؟، وما معنى قولهم : "إن مشكلتك مع الرئيس نفسه ؟ "، وماذا فعلت
أنا مع الرئيس ؟ ظلت هذه الأسئلة تدور فى رأس الدكتور "أسعد" بضع ساعات دون
أن يجد لها إجابات.
مازال يفكر ويعيد التفكير، يتذكر ويعيد
التذكر من جديد، يتذكر أول يوم رأى فيه شخص الرئيس وهو طفل صغير، تلميذ فى المدرسة،
فى التعليم الأساسى، ينقب عن المواقف التى ربما نتجت عنها مشكلة مع هذا الطفل الصغير،
ربما اعتدى عليه بالضرب، أو أصابه بسوء وهو غير متعمد.
مازال يعصر تفكيره ويجهد عقله، أملا فى
الوصول إلى موقف أغضب الطفل الصغير الذى مرََّ أكثر من أربعين عاما، ولم يذهب عنه غضبه.
أربعون عاما أو أكثر مدة زمنية طويلة جدا،
كيف يستطيع الإنسان أى إنسان، ولو كان عبقريا أن يُرجع الذاكرة إلى الوراء كل هذه المدة،
ليأتى بموقف بين طفلين صغيرين.
فجأة نطق الرجل بصوت جهورى، كاد يزلزل مبنى
المستشفى : " يوريكا " كما صدع بها " آرشميدس"- أى وجدتها - عندما
توصل إلى قانون الطفو، ماذا وجدت يا دكتور "أسعد" ؟ (سأله كل من حوله فى
الغرفة ).
تحدث بهدوء وبصوت خفيض دون انفعال وقال
: تذكرت ذلك الموقف الذى حدث بينى وبين الرئيس وهو طفل صغير، عدت إلى المدرسة بعد أن
قضينا الإجازة بمناسبة أحد الأعياد، وأثناء وقوفى معه فى فناء المدرسة، قلت له : انظر
إلى حذائى الجديد لقد اشتراه لى أبى بمبلغ كبير، هذا الحذاء لا يلبس مثله أحد من التلامذة
فى المدرسة، هذا ما قاله لى أبى، عندها تمتم بعض الكلمات التى لم أسمعها، تركنى مبتعدا
عنى، وهو ينظر إلى حذائه القديم المهترىء، تركنى وأنا لا أفهم لماذا تركنى ؟.
صمت الدكتور "أسعد" برهة ثم استأنف
حديثه قائلا : الآن أتذكر أن الموقف لم ينتهِ عند هذا الحد، وإنما استمر حتى دخلنا
الفصل، فإذا به يشكونى إلى المُدرسة أننى قد تفاخرت عليه بحذائى الجديد، وأننى قد عايرته
بحذائه القديم المتهالك، الأمر الذى لم يحدث، نفيت للمدرسة مزاعمه أمام التلاميذ، صدقتنى
المدرسة وكذبته، وسط ضحكات زملائنا، ومن يومها ابتعد عنى ولم يكلمنى مرة أخرى.
(5)
سجن العطار
دمعت عيونهم وأصابتهم الدهشة، عند رؤيتهم
المأساة،أربع سيارات مصفحة تقل خمسين جنديا وخمسة ضباط من قوات الأمن،توقفت أمام العمارة
بعد منتصف ليلة حزينة، يصعد الجنود السلم مددجين بأسلحتهم، خطواتهم تزلزل العمارة والعمارات
المجاورة فى الحى،حركتهم الهمجية أيقظت السكان، أقضت مضاجعهم، وفيهم المرضى وكبار السن
والعجزة، أرعبت الأطفال، أخافتالنساء، اقتحموا الشقة التى تسكنها إمرأة ترعى أربعة
من اليتامى.كبيرهم طالب فى السنة النهائية لإحدى الكليات الجامعية، وهو المطلوب القبض
عليه، والإتيان به حيا أو ميتا، دون أن يعطوا الفرصة لمن فى الداخل أن يفتح، كسروا
باب الشقة، دخلوا البيت عنوة دون مراعاة لحُرمة أو احترام لآدمية.بعد أكثر من ساعة،
أجهزوا على كثير مما تحتويه الشقة، تكسير، تحطيم،إتلاف، مع السب والشتم والصوت الجهورى
يسمعه القاصى والدانى مصحوبا بأصوات صراخ متقطع لصبية صغار، خرج الجنود منتشين مسرورين
لأنهم انتصروا وبصحبتهم الشاب مكبلا بالقيود، تهمته العظمى أنه يسير فى طريق الدعوة،يعلم
أطفال الحى قراءة القرآن الكريم والأحاديث النبوية، قصص الأبطال،طاعة الوالدين، حب
الوطن، العزة، الكرامة...
أصيب الجيران بالصدمة، منهم من أُغمى عليه
من هول الموقف، ومنهم من سأل الله أن ينتقم من هؤلاء الجنود، ومنهم من وجه السباب والشتائم،
وكثير من النساء والصبية والشباب هتفوا ضدهم، ذهب النوم عن عيونهم تلك الليلة حتى أُذن
الفجر، عند سماع الآذان هُرع الناس إلى المسجد الذى اكتظ بالمصلين، وكان القنوت، الشاب
الذى يحبه سكان الحى كان موعد امتحانه فى اليوم التالى،أرسل السكان العديد من البرقيات
للمسئولين لاستعطافهم ليطلقوا سراحه ليؤدى الإمتحان، الا أن الرفض كان هو الرد عليهم،
دخل الشاب السجن ومعه العديد من الرجال الأتقياء، هدفهم الذى يعملون من أجله هو إصلاح
الأمة وإزالة الغمة.
فى زنزانته رافقه رجل فى الأربعينيات من
عمره، قالوا عنه أنه تاجر صدوق، فتح الله عليه بالرزق الحلال،فأصبح من أشهر تجار العطارة
فى البلاد، امتلك المال الكثير، فوضعه الله فى يده ولم يجعله فى قلبه، اقترب العطار
من الشاب، عامله كإبن له، جعله الله سببا فى ثبات الشاب وصبره، ونزول السكينة على قلبه،
حدثه عن حياته، خبراته، تجاربه، تجارته....،أصبحا صديقين وكأنهما قد تعارفا منذ أمد
بعيد، خصص الرجل جزء من الوقت ليُفضى للشاب بأسرار تجارة العطارة، وعن دور عنصرى التجارة
– الأمانة والمهارة - فى الربح الوفير، فى الدنيا ولآخرة، وعده بأنه سيكون عونا له،
وسوف يمكنه من فتح محل للعطارة بمدينته،يكون ملكا خاصا به، وسيمده بالبضاعة شريطة أن
يلتزم بمبادىء التجارة بعيدا عن العشم أو الغشم.خرج العطار والشاب من السجن، بعد أن
أمضيا فيه عدة أشهر، ومضت الأيام بحلوها ومرها، كان الشاب قد تحصل على مؤهله الدراسى
بتقدير جيد،وفى أمسية جميلة وقف الشاب أمام دكانه الذى أصبح أكبر دكاكين العطارة فى
المدينة، وقف وبجواره العطار الكبير رفيق السجن فى الماضى، وهمايستقبلان المهنئين بمناسبة
مرور ثلاث سنوات على إنشاء الدكان.
(6)
فى إنتظار منصب الرئاسة
مازال ينتظر رحيل رئيسه المباشر...فهو الجاثم
على صدره...منذ سنين طويلة...
رحيله هوالخطوة المتبقية لنيل هذا المنصب
المنشود... هو الحائل الوحيد... الذى إذا زال... وصل إليه... إنه هو الرجل الثانى فى
هذا المكان... وجوده شرفى...ليس إلا... حتى فى حالة غياب الرئيس...لاقيمةَ له...فالتوجيهات
تصل إلى المرؤسين...عن طريق الهاتف المحمول... حتى وإن كان الرئيس خارج البلاد...منصب
الرئاسة جذاب...يجلب المال...والشهرة...والأضواء...يجتمع الناس حول الرئيس...مُكرهين
أو طائعين... الكثير منهم سوف يتملقونه... ينافقونه.... ومنهم من سيعمل جاهدا للتقرب
إليه...وإدامة المدح والثناء عليه...وسوف يكون من المعتاد تقديم الأسف والإعتذارإليه...
كلما حدث
تقصير..ولو كان بسيطا...
منصب الرئاسة متعة لاتدانيها متعة...الرئيس
كلمته مسموعة...نُكته وطرائفه...يضحك عند سماعها المستمعون...وإن كانت تافهة...الأوامر
منفذة بمجرد صدورها...النواهى ملزمة...يجب الابتعاد عنها دون تردد... اقتنعوا بها...أم
لم يقتنعوا...الرئاسة فى المنزل لها بريق خاص... فها هى إمرأته...يُقال عنها...زوجة
الرئيس جاءت...زوجة الرئيس ذهبت... غابت...ابتسمت...ضحكت...فرحت....حزنت..
بالمثل...ابن الرئيس... تلميذ فى المدرسة...كأن
على رأسه تاجاً... الطفل المدلل لناظر المدرسة......للمدرسين...يتعامل معه زملاؤه بتلطف...خوفا
من إثارته...وكذلك البنت...فى مدرستها...الجيران فى الشارع...رواد النادى... الأقارب
يتفاخرون...الأصدقاء والأصحاب...يتندرون على مواقف عديدة حدثت لهم معه...أو حدثت له
معهم... نظرة البقال للرئيس... تختلف عن نظرته لأى زبونٍ آخر...طريقة تعامله... فى
محاسبته...فى تقديم الطلب...فى توديعه... وكذلك الجزار...والخياط...والحلاق...محصل
الكهرباء...والمياه...وغيرهم... الكثير...تراوده الأحلام... والرؤى...فى المنام...أحلام
اليقظة... لا
تتركه طوال النهار...كثيراً ما يرى فى هذه
الأحلام..وتلك الرؤى...صوراً عديدة... ومشاهدَ مختلفة...فى بعض الأحيان... تكون قاب
قوسين أو أدنى...أن تقع على ارض الواقع.... وفى البعض الآخر تكون شبه مستحيلة... على
كرسى الرئاسة يجلس منتشيا... والعديد من المرؤسين من حوله...كلٌ بيده ورقة تحتوى على
طلب... يتسابقون على التحدث معه... ببذلته الجديدة...
يقف على سجادةٍ فاخرة... يُوبخ أحد المرؤسين...لتأخره
فى إنجاز مهمةٍ ما... سائقه الخاص يقود السيارة...يأمره بالإسرع...حتى لايفوته موعد
مقابلة الوزير...حفل التنصيب يَعُج بالضيوف... كبار رجال الدولة... رجال الأعمال...نجوم
المجتمع...من الفنانين...والرياضيين...والصحفيين..والأدباء...لم ينسَ زملاءَ الدراسة...
والجيران...وأصدقاء العقود السالفة...عدة سنوات إستمر على هذا الحال... حتى إعتلت صحته..
وهن جسده...غطى الشيب رأسه...ساءت حالته النفسية... فترت علاقاته الإجتماعية... بالرغم
من أنه رجلًٌ إجتماعى من الطراز الأول... أصبح الغضب هو المسيطر على تصرفاته...إسودت
الدنيا فى وجهه... يومُه ليس بأفضلَ من أمسه...غدُه ليس له أملٌ فيه...حتى إذا تلاشت
الأحلام...وتحطمت الأمال...وظن أن طموحاتِه ما هى إلا سراب...وأوهام...وخيالات... وتيقن
أن ليس فى الإمكان أبدع مما كان... سيعيش ما تبقى له من عمره...نائبا شكليا للرئيس...ثم
يموت
فى لحظة صفاء..عاد إلى نفسه...بدأ يفكر
بجدية... قال لنفسه... لن أصل إلى منصب الرئاسة...إلا إذا مات الرئيس...والموت بقدر
الله... وفى وقت لايعلمه إلا هو...أو إذا قدم إستقالته... وهذا حُلم من أحلام اليقظة...
يجب أن يُنسى...أو إذا عجز عن الإستمرار فى منصبه...بسبب مرضٍ خطير يُقعده عن العمل...أو
أُصيب فى حادثٍ مؤلم...والأمر كلُه لله... ما أصابك ما كان ليُخطئك... وما أخطأك ماكان
ليصيبك...
بعدها عاد إلى سيرته الأولى...بدأ يزاول
نشاطه المعتاد... فجأة...وبدون مقدمات جاءه الخبر اليقين... وفاة الرئيس...العزاء بعد
ثلاث ساعات... مكان العزاء بمدينةٍ تبعد عن مسكنه... بمئتى كيلو متر...انتابه شعوران
متناقضان... الحزن على موت الرئيس..لأنه كان دمثَ الخلق.. والفرح لأنه أصبح قريبا جدا
جدا...من تحقيق أمله المنشود..وحُلمه القديم... فورا...ارتدى أفخم الملابس... النظارة
الشمسية الجذابة...العِطر فى مثل هذه المناسبات المؤلمة... غير مناسب...أمر السائق
بتجهيز السيارة...إستعداداً للسفر...تأخر بعضاً من الوقت..لانشغاله بعدة مكالمات هاتفية...
أخيرا..استقل سيارته... بطريقة انفعالية...أمر
السائق بالإسراع... كرر هذا الأمر مراتٍ عديدة... ليلحق بالعزاء... السائق أطاعه...
قاد السيارة...بسرعة جنونية... لم يستطع اللحاق... فقد كانت هناك...على الجانب الأيمن
من الطريق... فى انتظاره...شجرةٌ ضخمة...اصدمت بها السيارة التى يستقلها هو والسائق...
فارقا الحياة..
(7)
الطائر يعظ
قبيل موعد آذان الظهر بدقائق معدودة، على
الصارى المثبت على قمة مئذة أحد مساجد المدينة، بكل زهو وقف الطائر ونادى بصوت غريب على مسامع الناس : الله أكبر..
الله أكبر، نظر الناس إلى مصدر الصوت فوجئوا
بالمشهد العجيب...تجمعوا بأعداد غفيرة...
نظروا إليه باستغراب... وقبل أن تزول دهشتهم بادرهم بقوله : إن آذان الظهر لم يحن بعد، وإنما أردت أن أحدثكم فى
أمر جلل، ألم يفكر أحدكم فى يوم من الأيام لماذا لايستطيع أن يقف هذه الوقفة بهذا الشموخ وبتلك العظمة وبارتفاع شاهق ؟.
إستأنف حديثه بصوت مرتفع قائلا :إن أحدكم
لايستطيع أن ينافسنى فى القدرة على التحليق فى الفضاء الفسيح وقطع المسافات الطويلة
فى أقل وقت ممكن، أرتفع عن الأرض فى أى وقت كيفما أشاء، وأهبط إليها دون أن يتحكم فىَّ
أحد، إنكم جميعا لاتستطيعون... لديكم إمكانات هائلة فى كافة المجالات..إكتشفتم الذرة
منذ أمد بعيد...وحديثا الفويمتو ثانية... اخترعتم اختراعات مدهشة... ومع كل هذا لاتستطيعون
منافستى.
وبنبرة هادئة قال : قد تظنون أن سبب رفعتى
عليكم أنى خفيف الوزن صغير الحجم، لى جناحان لطيفان ويغطينى كثير من الريش، وهذا الظن مجافٍ للحقيقة
والواقع معا.
هز الطائر جناحيه وصاح فيهم : إنظروا إلى النعم العظيمة والخيرات الوفيرة من حولكم...قد منَّ الله بها عليكم، تفكروا فى المواهب
والقدرات والإمكانات التى وهبها لكم ربكم، الشمش القمر والنجوم والأرض والبحاروالأنهار
والحيوانات والطيور وكل المخلوقات سخرها لخدمتكم، وإن تعدوا نعمة الله لاتحصوها، وفى
أنفسكم أفلاتبصرون،ومع ذلك فإنكم ربما لاتستغلونها الاستغلال الأمثل، أو تستغلونها
فى غير موضعها الذى أراده الله.
وبهدوء الداعية قال : إنكم ترتكبون الذنوب
والآثام والمعاصى... وتصرون عليها، ومنكم من يستمرىء ارتكابها دون أن تكون نفسه لوامة،
منكم من يقول الزور ويتناول الطعام الحرام،
ومنكم من يأكل أموال اليتامى، ومنكم من يداوم على الغيبة والنميمة ليلا ونهارا، ويتفنن
فى كيفية إثارة الفتن بين الناس، الكثير منكم
حياته كلها تطوع بها للشيطان، ولأنكم على هذا الحال والبعد عن الطريق المستقيم فإنكم
لن تستطيعوا منافستى.
أردف قائلا : أنا لا أنظر إلى ماحرمه الله...
ولا أرتكب المحرمات...أنا لاأمارس الغيبة أو النميمة، ولم ألوث لسانى بأية ألفاظ نابية...
نظراتى خالية من الحقد و الحسد... لم أظلم أحدا من بنى جنسى أو من جنسكم... أنا أسعى
على رزقى... آخذ بالأسباب.. أنام قرير العين وقلبى لا يحمل غلا لأحد، ولذلك كان هذا
حالى وهذا حالكم.
وصاح بصوت مرتفع : أيها الناس : إذا انتشر
الحب فيما بينكم، وطهرتم قلوبكم من البغضاء والكراهية... إذا استمسكتم بقرآنكم وسنة
نبيكم (ص)....أديتم فرائضكم والتزمتم بواجباتكم...انتهيتم عما نهاكم دينكم، إذا توكلتكم
على الله حق التوكل...فيمكنكم أن تمشوا على الماء وتسبحوا فى الفضاء دون عناء.....وربما
تنافسونا...وتفوزوا علينا.
(8)
الغربة القاتلة وأحلام الوطن
الغربة الطويلة...بعيدا عن أرض الوطن...كادت
تقتله...أخذته إلى عالم مجهول... لم يجد له أنيسا الا الوحدة...كان دائم التهرب منها...يسير
فى شوارع غريبة...مليئة بشخوص... فى صورة أشباح...لامعالم
لها... شخوص...شاحبة... باهتة... غامضة...فى النهار...تطارده أحلام اليقظة المزعجة...
يجلس إذا كان واقفا ليبعدها...يتوقف إذا كان ماشيا...فلا يستطيع الفكاك من قيودها...فى
عتمة الليل...فى البيت المظلم... المُحاط بأفراد لاتلقى سلاما...ولاتظهر ابتساما...فى
الغرفة المظلمة...يفكر فى الهروب إلى النوم...تتلقفه الكوابيس المستفزة... تستصرخه
أشباح يائسة....إنهم يغتالون
الوطن...بعد أن سرقوه...بالسلاسل قيدوه...شرفه...أهانوه...
إنهم يريدون أن يبتلعوه...هم العملاء...المؤيدون من أعداء الوطن...يعملون لحسابهم...ولو
كان الثمن هو وأد براءة أطفالهم.
قرر قتل الغربة قبل أن تقتله...هناك...بالمال أغروه..بالمنصب الرفيع...بكل الوسائل...حاولوا
إقناعه بالبقاء...بالترغيب..بالترهيب...رفض...أصر
على العودة.
عاد إلى أرض الوطن...سار في الشوارع...
فى الميادين...بحث عن الابتسامات...التى كان يعشقها...دموع الأحباب الصادقة...التى
كانت تسيل فى السراء والضراء...فى الشدة وفى الرخاء...عن الأمل...فى عيون الفتية...عن
العزيمة فى قلوب الرجال...لم يجد من ذلك شيئا.
الشوارع المزدحمة...رآها فارغة...رغم الزحام...افتقد
الوجوه النضرة...التى أحبها...كانت تداعب أحاسيسه...تشاركه الأمل...فى أن يرى وطنه
فوق كل الأوطان...وشعبه فوق كل الشعوب.
براءة الأطفال...لم تعد كما كانت...كلماتهم...عباراتهم...همساتهم...
بعض النسوة...أظهرن جرأة...تناقض الفطرة والحياء...التبرج...المساحيق...الشعر ينسدل
على الأكتاف العارية...ما هكذا كان الليل...ولاضوء القمر...بريق النجوم... بات باهتا...غاب
الإحساس بعبق المكان.
العلاقات بين البشر...أصبح لها شكل آخر...الرجل
مع إمرأته...بين الجيران...فى المدرسة...فى الحقول...فى زحمة المواصلات...أمام المخابز...الجميع
يطمع فى الجميع...الآخر ليس له مكان...لا فى القلب...ولا على الأرض...ولا على الخريطة.
ضاعت الملامح...تكسرت الأبجديات...العيون
لاتستطيع أن تفرق بين ألوان الطيف...فقد باتت متقاربة جدا...فى نظرهم...أشعة الشمس
غير كافية لنشر الدفء...النسمة الآتية من البحر...يتوقعون أن يفرضوا عليها ضريبة...سديم
الشفق...ينادى بحزن...لاتتكلموا عن هموم الوطن...وقضايا الوطن...فالمخبر يختبىء خلف
الجدار...يتنصت عليكم....السجون كثر عددها...ضاقت نوافذها...اتسعت أبوابها...فُتحت
على مصراعيها...فى وجه الشرفاء...أوصدت فى وجه لصوص الوطن...الجواسيس...مصاصى دماء
أبنائه...محترفى الجرائم...زوجات الشرفاء المغيبين...يتساءلن...أين أزواجنا اللذين
زُج بهم فى السجون...من أجل عيون الوطن؟...الأبناء فى المدارس...يتفاخرون أمام زملائهم...آباؤنا
ذهبوا قبل الفجر إلى الزنازين...ليأتوا لنا
بحرية الوطن...الصالحون...فى السحر...يدعون ربهم...اللهم عليك بهم...اللهم حرر
الوطن...على وجه الوطن غبار يختلط بصخب...ضوضاء صيحات هستيرية...خطب...مقالات...عاش
الزعيم.
نادته الغربة من جديد...بجواذبها...بريقها...بأموالها...رفض
النداء...قرر البقاء...شرع فى البناء...بناء دار للحضانة...حضانة للأطفال...بها حديقة...ملاعب...مكتبة...أكبر غرفة هى للمسجد...بجوار
القبلة... يجلس شيخ مربٍ..يقرأ القرآن... يردد الأطفال...بصوت مرتفع...إقرأ باسم ربك
الذى خلق...
(9)
ثورة الديوك
بعد أن انتهى العمدة وأفراد أسرته من تناول
العَشاء، انفض الجميع ماعدا زوجته وابنه الوحيد”حِميدة”، والذى يسعى بكل ما أوتى من
قوة لتوريثه منصب “العمُدية”، بما يحمله هذا المنصب من مواصفات جوهرية، والتى لابد
أن يكتسبها من يرغب فى نيل هذا المنصب.
استغل “حميدة” فترة السمر والتى يتوقف فيها
العمدة عن الانفعال وإصدار الأوامر والنواهى، وشرع فى الحديث بنبرة الحزن والخوف على
القرية وأهل القرية.
يا حضرة العمدة: “هناك مشكلة مزمنة فى القرية
والناس يشكون من خطورتها ويتبادلون الحديث فيها سراً فيما بينهم خوفاً من وصول الخبر لك ومعرفة مصدره”.
رد العمدة باهتمام: “وماهى تلك المشكلة
المزمنة والتى تهدد وجودنا وربما تزلزل عرش “العُمدية”، التى حافظنا عليه أباً عن جد؟.
يا أبتى: “صياح الديوك فى أرجاء القرية
والذى يبدأ بعد منتصف الليل ويستمر حتى الفجر، هذا الصياح يزعج الشيوخ كبار السن ويقلق
المرضى الذين يحتاجون للراحة والنوم دون ضجيج، ويوقظ الأطفال من نومهم فى بهيم الليل،
وحتى شباب القرية يستفزهم صياح الديوك، وربما يوقظهم من نومهم فلا يستطيعون النوم مرةً
أخرى، مما يؤثر على راحتهم واستعدادهم للعمل فى الصباح الباكر، وكذا النساء والفتيات”.
توقف “حميدة” عن الكلام وكادت تدمع عيناه
متأثراً بما يقول، ثم استأنف حديثه بعد أن ارتفع صوته قائلاً، لابد أن يتوقف هذا الصياح،
لابد أن تُذبح تلك الديوك حتى يستريح الناس وتهدأ الأمور.
وبهدوءٍ غير معتاد رد العمدة : “يا بُنى:قبل
أن أرد عليك، أنت تعلم مدى حبى لك واهتمامى بك، وما فعلته من أجلك حتى تكون عمدة القرية
القادم، وقد بلغت من العمر أرذله، وأتمنى أن تكون أفضل عمدة فى المنطقة، ولكى تكون
كذلك عليك ألا تنفعل فى مواجهتك لأية مشكلة وأن يكون الهدوء هو سمتك، حتى لا تندم على
قرارٍ قد اتخذته، نعم أنا أنفعل، ولكن انفعالى مع الخفراء والأهالى لتسيير الأمور،
وهذا لا يحدث عند اتخاذ أى قرار”.
أما بالنسبة لفكرة ذبح الديوك، فبئس الفكرة،
فما أبشعها وما أخطرها، فأثرها شديد على القرية وأهالى القرية، وماسمعته منك ليس حقيقياً،
وإنما هى فكرة أملاها لك شيطانك، وشياطين الإنس من أصحاب السوء الذين تجمعهم فى مجلسك
الليلى الذى لا حديث فيه إلا عن أعراض الناس بالغيبة والنميمة، والتخطيط فيه لارتكاب
الأفعال الإجرامية والأعمال الانتقامية”.
يا بُنى: “لاتغضب من كلامى، فالنصيحة من
الأب فى السِر خيرٌ من توجيهات الناس لك علانيةً مما تتبعها الفضيحة”.
“يا بُنى إننا فى بداية الأربعينات، وأنا
فضلت ألا تُكمل تعليمك وتكتفى بالشهادة الابتدائية حتى تتفرغ لـ”العُمدية”، ولكن هذا
لا يعنى أن تتوقف عن القراء والاطلاع على كل ما يفيدك ويفيد الناس لتكون قدوةً حسنةً
لمن ستكون عليهم عمدة”.
واستطرد قائلاً : “ولوقمت بتنفيذ فكرة ذبح
الديوك أو الأمر بذبحها، فسوف يتهمك الناس بالجنون والشذوذ، وسوف تُنهى عمرك بيديك”.
“يا بُنى ربما لا تعلم أن آباءنا وأجدادنا
علمونا منذ القدم أن صياح الديوك ما هو إلا آذان ينادى به الديوك المؤمنين الصادقين
أن قوموا لتستغفروا ربكم، أن قوموا لتصلوا قيام الليل والعُصاة والكسالى نائمون، أن
قوموا لتقفوا بين يدى الله الواحد القهار العزيز الغفار، تائبين عن المعاصى والذنوب،
أن قوموا لتتفكروا فى خلق السموات والأرض والنجوم و البحار والأنهار وهذا الكون العظيم”.
ومر عام ونصف العام على هذا الحوار الأبوى،
مات العمدة وسرعان ما ماتت زوجته حزناً على موته، بات “حميدة” وحيداً دون مستشار إلا
من أصحاب السوء الذين حطموا شخصيته ودمروه مستقبله، وجعلوه مثاراً للسخرية والتهكم
بين أهالى القرية، بل والقرى المجاورة، لسذاجته وسطحيته وغبائه الشهير.
استلم “حميدة” منصبه الجديد، ينتابه شعور
بالحزن لوفاة أبيه و شعور بالوحدة فى دوار العمدة بلا أب وبلا أم وكذا شعور متناقض، شعور بالفرح لأنه أصبح عمدة القرية،
ومن أعيان المركز الذين يحترمهم ويقدرهم ضباط الشرطة والجنود ومأمور المركز وضابط المباحث،
يحترمهم جنود الاحتلال الإنجليزى، وكذا يحترمهم الناس فى القرية والقرى المجاورة.
ومن سوء الطالع كانت النصيحة الأولى من
مستشارى السوء أن قم – حضرة العمدة – الجديد بإصدار أمركم القوى الحازم بذبح الديوك
حتى يحترمك أهالى القرية من أول لحظة، فتسير الأمور بعد ذلك بلا معارضة أو مجادلة،
الكل يسمع ويطيع، فلا مناقشة ولا اعتراض.
فكان الفرمان الأول للعمدة الجديد إلى كل
من يربى ديكاً فى حظيرته عليه أن يقوم بذبحه، وإلا إذا سُمع صياحه ليلاً فسوف يقوم
الخفراء باقتحام بيته وأخذه ثم تسليمه لحضرة العمدة فى دوار العمدة، ليقوم بذبحه وأكله
لنفسه دون غيره.
ولقد صاحب اتخاذ هذا القرار حملةٌ إعلامية
ضخمة من أصحاب العمدة أصحاب السوء، و شيخ الخفراء و الخفراء لبث روح الخوف والرعب بين
الناس، وأن من يخالف هذا القرار ولا يتلتزم به فسوف يرى ما لا يراه البشر من تعذيب
وتشهير وفضيحة، مما جعل أكثر الناس يستسلمون للقرار ولآثار هذا القرار الأليمة على
نفوس الناس.
سكن الليل وتوقفت أصوات الديوك، وقل عدد
من يقيمون الليل ومن يستيقظون قبل الفجر للصلاة والتسبيح والذكر والتهليل، لم يصدر
أى صياح لأى ديك، انتشر الخوف والرعب بين الناس، وفى الوقت ذاته انتشرت الجريمة وازداد
عدد المجرمين، انتشرت البطالة، وانتشر الفساد والرشوة لإنجاز المصالح، بات أصحاب العمدة
أصحاب السوء هم سادة القرية، هم أبواق حضرة العمدة، هم من يشيرون عليه باتخاذ القرارات
المهمة لأهل القرية، هم الذين يمثلونه أمام أهل القرية، هم الذين يحلون المشاكل حسب
أهوائهم أو حسب ما يقدمه لهم أصحاب تلك المشاكل من هدايا وهبات، باتوا هم أصحاب الحَل
والعَقد فى القرية.
انهمك العمدة فى مجالس الأنُس والمحرمات
والسهر حتى مطلع الفجر دون أن يستفز أصحاب هذه المجالس صياح الديوك أو جلبة المصلين
و القائمين أو صوت التسبيح و التهليل والتكبير فى ظلمة الليل، استمتعوا بما ارتكبوه
من موبقات ومنكرات، ولكن لم تطل مدة هذه المتعة إلا بضعة شهور.
استفاق بعدها أهالى القرية من غفلتهم، وندموا
على موقفهم الهزيل والضعيف، فكيف تغلبهم فئةٌ من الفسدة والفسقة؟، جُلُهم من الأميين
وغالبيتهم من السفهاء، كيف استسلموا سريعا لهؤلاء الفاسدين دون أن يُظهروا لهم أية
مقاومة ولو بالكلام؟.
شاب مؤمن نشأ فى عبادة الله، تربى فى المسجد،
ما فرط يوماً فى فريضة من الفرائض، كل صلاته جماعة فى المسجد، بدأ يتحرك بين الناس،
اجتمعوا ولا تفرقوا، اتحدوا ولا تنافروا، الأمر جد لا هزل فيه، أنتم تحاربون مجموعة
من ضعاف النفوس، عمدتهم ذليل لأهوائهم عبدٌ للملذات و الشهوات، هزمتكم حينما تفرقتم
واختلفتم، فإذا رأت منكم قوةً واتحاداً فسوف تعلن هزيمتها وسرعان ما تنهار.
على كل رجلٍ منكم أن يربى فى بيته الديوك
ولا يذبحها، ويجب أن يعلم العمدة والخفراء وأصحاب العمدة وعائلة العمدة أن أحداً لو
تجرأ واقترب من بيتٍ من بيوتنا، فسوف نعتبره لصاً اقتحم بيتنا ليسرقنا، أو قاتلاً جاء
ليقتلنا، فلا ديةَ له، ووصل الأمر إلى العمدة، فاحتار أمره، وتردد مستشاروه فى نصيحته،
وتفرق الكثير منهم عنه لأنه بات ضعيفاً ولا قرار له.
فى ليلةٍ جميلة مازال أهل القرية يتذكرونها،
صدر من ديكٍ صغير صياح ضعيف، من داخل بيتٍ فى أطراف القرية، فهُرع الخفراء نحوه لتأديب
صاحبه، فإذا بصاحب البيت وحوله جُل أهل القرية يقفون لهم بالمرصاد، مما جعل الخفراء
ليس أمامهم إلا الانسحاب، فكانت تلك الليلة أسعد ليالى القرية منذ أعوامٍ عديدة.
وفى الليالى التالية كثر عدد الديوك الثائرة
فى الصياح، وارتفع صياحها، فى كل أرجاء القرية، واستيقظ الناس فى الثلث الأخير من الليل،
وصلوا قيام الليل وقل عدد الكسالى النائمين، استيقظ الشباب والشيوخ، استيقظت النساء
للصلاة ومعهن الفتيات، ارتفع صوت الناس بالتكبير والتهليل، كست الفرحة وجوه الأهالى…
وفى ليلة من تلكم الليالى الجميلة ذهب أهالى
القرية ليتفقدوا أحوال مجلس العمدة، فوجدوه جثةً هامدة وبجواره زجاجات الخمر، وعددٌ
من الكاسات الفارغة، وجدوا الجثة، ولم يجدوا أحداً من أصحابه أو مستشاريه، فقد هجروا
القرية خوفاً من بطش أهاليها الصالحين بهم.

ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق