إقرأ المزيد http://www.condaianllkhir.com/2016/08/twitter-card-summary-for-blogger.html#ixzz4LXpQ7Rxc سحر الكلمات : دع الفشل وانطلق للنجاح .... (قصص قصيرة)

جديد

فى صباى، كانت تراودنى الأحلام الجميلة، تمنيت أن أراها على أرض الواقع، كنت أرى فيها بلادى أجمل البلاد، وشعبى أفضل الشعوب، وفى فترة الشباب كان يتملكنى والعديد من أقرانى شعور بحتمية التغيير إلى الأفضل، فلسنا أقل من أية دولة متقدمة ومتحضرة مندول العالم.

سحر الكلمات " قصص قصيرة "

الأحد، 29 مايو 2016

دع الفشل وانطلق للنجاح .... (قصص قصيرة)



 دع الفشل وانطلق للنجاح(قصص قصيرة)

محمد شوكت الملط
******
إهداء
إلى كل من يمتلك نفسا تواقة....
إلى كل من لديه همة تناطح الثريا...
إلى كل من يرغب فى النجاح والتفوق...
إلى كل من قرر أن يتخذ الإبداع طريقا له...
أهدى هذا الكتاب
محمد شوكت الملط

مقدمة

إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستهديه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرورأنفسنا وسيئات أعمالنا، إنه من يهده الله فهو المهتدى، ومن يضلل فلن تجد له وليا مرشدا.
وأشهد أن لا إله الا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله.
وأصلى وأسلم على المبعوث رحمةً للعالمين.
أما بعد
فى هذه المجموعة القصصية (دع الفشل وانطلق للنجاح)، قصص لأشخاص وهبهم الله مواهب فذة فى مجالات مختفلة، حاولوا قدر استطاعتهم أن يصقلوها، ليسيروا فى طريق التقدم متسلحين بسلاح الإبداع، إلا أن العقبات والعوائق اعترضت طريقهم، بسبب الظروف القاسية التى كانوا يعيشون فيها، أو بسبب المعارك الضارية التى طالما شنها عليهم أعداء النجاح.
هذه القصص الحقيقية، التى مُزجت ببعضٍ من الخيال، بما فيها من معاناة وألم، يجمع أبطالها أنهم ساروا فى طريق العمل الإعلامى، فمنهم المذيع، ومنهم المنشد والمخرج والممثل، وغيرهم، عاش كل واحد منهم من أجل رسالة عبقة وسار على درب الكفاح لينال الرضى والفلاح.
إنها قصص من الحياة، لذلك كان الهدف من ورائها، هو تسليط الضوء على أبطالها وأمثالهم، ليكونوا قدوة لغيرهم، فى مواجهة تحديات الحياة، ربما لا تكفى قراءة مثل هذه القصص، لتحفيز القراء على العمل الجاد لتحقيق طموحاتهم، وإثبات ذواتهم، فهى على الأقل ستكون على سبيل التذكير بأهمية السعى والأخذ بالأسباب، والتوكل على الله، واستنباط العبر والعظات، للاستفادة منها فى أمورنا الحياتية.
ومن ناحية الشكل فهى قصص قصيرة، فالواحدة منها لا تكاد تتجاوز العشر صفحات طولاً، وهذا النوع من القصص يعتبره فصيل من النقاد ملائماً لروح عصر السرعة الذى نعيشه.
والله من وراء القصد وهو يهدى السبيل
المؤلف
محمد شوكت الملط
Msh_malt2011@yahoo.com
القطاوية - أبوحماد – شرقية- مصر
فى: 25/4/2011

 "1"العقوبة الممتعة

توجه المدرس إلى فصله بعدما رن جرس الحصة بخمس دقائق " إذ ليس هناك من يقوم قبل رن جرس الحصة من زملائه المعلمين إلا نادرًا، تناهت إلى مسامعه ضحكات التلاميذ العالية، وقف قريبًا من باب الفصل، فوجئ بأحد التلاميذ يقلده في مشيته، في طريقة حديثه، في حركاته، وكأنه ممثل محترف في مجال التقليد.
احمر وجه المدرس، اشتاط غيظًا، ولكنه سرعان ما تمالك نفسه، كظم غيظه، دخل الفصل بهدوء مصطنع، قرر معاقبة التلميذ المقلد "يوسف"، بعقوبة لم يتوقعها، وهى إلحاقه بإحدى جماعات النشاط الطلابي (جماعة التمثيل) في المدرسة " طبعاً حدث هذا يوم كان للنشاط الطلابي صولاته وجولاته "،هذه العقوبة وضعت التلميذ "يوسف" على أول مدارج المجد والشهرة دون أن يدرى.
كانت أمتع الأوقات التي يستمتع بها هي أوقات تواجده مع جماعة التمثيل، تعلم على يد مشرف النشاط مبادئ التمثيل، أحب التمثيل وتمنى أن يكون من رموزه، قام بعدة مشاركات في مدرسته الإعدادية، أُعجب به كل من رآه، أثنى عليه الكثير من التلامذة والأساتذة، كان الطلب التقليدى فى أى تجمع طلابى،هو أن يقوم "يوسف" بتقليد أحد المشاهير، فى الصوت، الملابس، النظرات، الانفعالات، طالما كان يضج المكان بالضحك والإستحسان.
أصبح لدى "يوسف" الكثير من المعجبين، من التلامذة والأساتذة على حد سواء، مما زاده تصميماً على تنفيذ رغبته فى السير فى طريق التمثيل , ولكن العين بصيرة واليد قصيرة، كما يقول المثل الشعبى المصرى، إذ ليس من السهولة بمكان، أن توافق أسرته على السير في هذا الطريق، الذي قلما يصل إلى نهايته إنسان، فربما يحتاج إلى معارف أو وساطة، أو تنازلات، وفى الوقت ذاته فهو طريق شائك، مليء بالعقبات والعوائق، كثيرًا ما تُغلق أبوابه بسبب منافسات غير شريفة أو الاصطدام بأعداء النجاح - وما أكثرهم -، فضلاً عن الحاجة إلى المال للإنفاق على تطوير الأداء وتحسين العمل و الدورات المتخصصة.
بعد إلحاحٍ من " يوسف " وافقت الأسرة على التحاقه بأحد القنوات الفضائية لتصقل موهبته – كدورة تدريبية، شريطة أن يتفوق في تعليمه الثانوي، لجأ إلى بعض المتخصصين فى مجال الفن، نصحوه بأن يقرأ كثيرًا في مجال الأدب والفكر، إذ لا يصلح أن يكون ممثلاً خاوياً, فالفنان الصادق ينبغى أن يكون صاحب رسالة "، عليه أن يقرا كثيرا في الكتب المتخصصة في مجال التمثيل.
اعتاد " يوسف " المشاركة في المسابقات الفنية أثناء فترة التعليم الثانوي، وفى فترة الجامعة شارك في الكثير من المسرحيات والأعمال الفنية، التي كانت تقيمها لجان النشاط الطلابي، فكل كلية تقدم نهاية كل فصل مسرحية، فضلاً عن حفلات الجوالة التي لم يعد يسمع عنها أحد , و التي طالما خرَّجت النجوم، تفوق فيها على نفسه، بهر من شاهده لروعة أدائه.
حدث ما كان متوقعا منذ البداية، ليس له معارف فى المجال الفنى، ولم يجد من يعطيه الفرصة، فيقدمه للجمهور فى أعمال فنية تُظهر موهبته، رأى الأبواب موصدة فى وجهه، حاول مرارًا وتكرارًا، ولكنه كان يُقابل إما بالرفض المباشر، أو بالإعتذار المهذب، وفى بعض الأحيان يُطلب منه أن يمر على شركة الإنتاج بعد مدة زمنية طويلة، ومع ذلك لم ييأس.
أصر"يوسف" على الاستمرار في البحث عن منتج يُقدر موهبته، لم يترك مقر شركة للإنتاج الفني إلا ودخله، يُعرف بنفسه، يقدم موهبته، وقبل أن يترك المكان يُذَّكر من يرفض التعامل معه، بأنه سوف يأتي اليوم الذي سيسمع فيه عن " يوسف "، وسيندم كثيرا لأنه رفضه، سيتمنى أن يتعامل معه " كثيرا ما كان يُقابل باستهتار و تهكم، خاصةً إذا قال هذا الكلام , فلسان حالهم يقول : ارحل ولا تنسَ أن تغلق الباب.
وجاء اليوم الموعود، فقد أعلنت شركة إنتاج عن إجراء مسابقة بين الممثلين الشباب، ليقوم الفائز منهم بدور احدى الشخصيات التاريخية الشهيرة.
تقدم مائة ممثل شاب لهذه المسابقة، رُفضوا جميعا إلا ثلاثة ليس من بينهم " يوسف "، طلبوا منهم الانصراف، فانصرفوا إلا الثلاثة ومعهم " يوسف "، الذي أبى إلا أن يقابل الممتحنين مرةً أخرى.
وأمام إصراره و إلحاحه المستمر، سمحوا له بامتحانه مرةً أخرى، قدم أمامهم مشهدًا فنيًا ظهرت فيه موهبته الفذة، التي جذبت قلوب اللجنة وعقولهم، فأجمعوا على قبوله ليقوم بدور البطل، وكان هذا الفيلم أول البطولات الفنية التي استمرت كثيرًا.

"2"تعديل مسار

انبهر المخرج الشهير بشخصية الطالب " وليد"، الذي دعاه لحضور ندوة فنية عن أفلامه وتاريخه الفني، بهرته معلوماته الغزيرة عن الفن بصفة عامة، وعن أعماله الفنية بصفة خاصة , فكيف بطالب في السنة الرابعة بكلية الطب لديه كل هذه المعلومات.
أدار " وليد " الندوة الفنية التي أقامتها عمادة السنة التحضيرية بالجامعة، ولم يسعد المخرج الشهير بالمدح والثناء على أعماله الفنية وعلى شخصه، قدر سعادته بقدرة وليد على إدارة الندوة الفنية باقتدار " و هكذا هم القادة الصادقين اللذين يفرحون بالشباب الطموح ,و يسعدون بأي لبنة جديدة , فلا مجال لديهم لإبعاد البارزين خشية أن يحلوا محلهم "، وكأنه ناقد فني متخصص.
بمجرد انتهاء الندوة طلب المخرج الشهير من " وليد " الانفراد به والتحدث معه، سأله : كيف أتيت بكل هذه المعلومات عني وعن أعمالي الفنية ؟، أجابه بأنه يعشق شخصه لتميزه فنيًا وأخلاقيًا، يستمتع بمشاهدة أفلامه، ذات القيمة العالية و الشهرة العالمية، يواظب على متابعة أخباره، وما يكتب عن أعماله في كل الجرائد والمجلات " و كما قيل الحب عذاب , و كذا العشق جنون و فنون ".
أُعجب المخرج بإجابة " وليد "، سأله عن الغرض من وراء اهتمامه بمجال يختلف كثيرًا عن مجال الطب، فوجئ المخرج الشهير بإجابة " وليد " بأنه لا يدرس الطب إلا إرضاءً لوالديه، اللذين يأملان أن يَرياه طبيبًا، أما هو فهدفه الأسمى أن يكون مخرجًا متميزًا، فما كان من المخرج الشهير إلا أن أعطاه " الكارت" الخاص به، طبعا مبين به عناونه، وأرقام هواتفه، ونصحه بقوله : واجبك الآن هو أن تهتم بدراستك وأن تتفوق فيها، وبعد ذلك فان لكل حدث حديث"، اتفق معه على أنه سينتظره بمكتبه عقب تخرجه من كلية الطب، ليتعلم منه فن الإخراج.
عاد " وليد " إلى بيته فرحًا : قابلته أمه، لمحت في عينيه السعادة، سألته عن السبب، بلا تردد أجاب، حكى لها ما حدث، كاد يُغمى عليها من هول المفاجأة، ابنها يريد أن يترك دراسة الطب، ليعمل في مجال الفن، أطلقت عدة صرخات بلا وعي، على صراخها دخل الأب، غضب عند سماعه الخبر، انقلبت الأمور رأسًا على عقب، شرع وليد في طمأنتهما، الأمر مازال قيد الاقتراح، لن أدخل مجال الإخراج قبل إنهاء دراستي في الطب، لن أتحرك في أي اتجاه إلا بموافقتكما، هكذا ظل طوال الليل يسترضيهما، فتربية "وليد"علمته أن الوالدين قبل أي قرار , أهم شيء رضاهما , و الخير في اسعادهما , فرضاهما جنة.
قضى " وليد " السنتين المتبقيتين يأتي لأبويه بكل صديق لهما، يحاول إقناعهما بفكرته حتى كاد يصل إلى مرحلة اليأس من تحقيق حُلمه، ولما رأى والداه إصراره و صموده في فكرته و قناعته، تراجعا عن رأيهما، وافقا على تنفيذ رغبته.
وفى الموعد المحدد دخل الدكتور " وليد " مكتب المخرج الشهير، استقبله استقبال الفاتحين، اتفق معه على أنه سيقوم بتعليمه الإخراج السينمائي على محورين، الأول: قراءة الكتب التي يختارها المخرج – في مجال التمثيل والإخراج- باللغة الانجليزية لمدة ثلاث ساعات يوميًا، المحور الثاني : الجانب العملي بأن يكون ضمن طاقم المساعدين له في إخراج الأفلام.
أخبره بأنه لن يكون لديه أي وقت سوى للإخراج فقط، وعليه أن يجعل شغله الشاغل الإخراج فقط، تذكر ما قالته له أمه بعد الموافقة"واحسرتاه على بكالوريوس الطب، الذى تحصلت عليه بعدما بذلناه من جهد جهيد... سلمت أمرى إليك يارب، اللهم احفظه من فتن الفن وأهل الفن ما ظهر منها وما بطن ".
انكب " وليد " على القراءة ليلاً لساعات طويلة، منذ الصباح الباكر يكون أول المتواجدين في مكان التصوير و آخرهم انصرافاً، ظل على هذا الحال مدة خمس سنوات متتالية نسى فيها ما درسه بكلية الطب، انقطعت صلته بالأصدقاء والأقارب، جُل وقته ما بين القراءة والعمل، لتحقيق حُلمه الذي ظل طوال حياته متمنيا تحقيقه.
فوجئ " وليد " بتصريح صحفي لأستاذه، يثنى عليه، يصرح على الملأ، بأنه جدير بأن يقوم وحده بإخراج أفلام متميزة، بات مخرجاً مستقلاً، في غضون ثلاثة أعوام أصبح " وليد " من أشهر المخرجين في البلاد، لم تنقطع صلته بأستاذه، ظل وفيًا له، لم يتركه وقت المحن، و لم يترك نهجه في تبني المواهب الشابة.

" 3 "السباحة ضد التيار

نشأ " منصور " في بيت أدبي، فأبوه من كبار الأدباء ومن أشهر كتاب الروايات والقصص، وأمه تعمل مديرة مدرسة ثانوي، منذ نعومة أظافره اعتاد على القراءة " لا على البلاستيشن و الوي و الاكس بوكس و سبيس تون , و العالمي و الزعيم "، صارت كالطعام والشراب بالنسبة له، فكثيرًا ما كان يحضر مقابلات والده مع الأدباء والمفكرين " وما أكثرهم " , كان يواظب على حضور الندوات الأدبية التي كانت تعقد في بيتهم، أو في بيوت أصدقاء والده.
بمرور السنين أصبحت له آراء متميزة في الحوارات و النقاشات التي كانت تجري في اللقاءات والندوات، ثم التحق بكلية الآداب قسم انجليزي، تخرج منها بتقدير جيد جداً.
أثناء دراسته بكلية الآداب، دُعي لحضور ندوة لداعية إسلامي كبير، كان موضوعها عن " شمولية الإسلام "، كانت نقطة تحول في حياته، علم معنى شمولية الإسلام أن الإسلام منهج متكامل، تشريع شامل لكل مجالات الحياة، فهو إيمان وعمل، عقيدة وشريعة، عبادة ومعاملة، فكر وعاطفة، أخلاق وعمران... إلخ، عاد إلى البيت بشخصية غير شخصيته التي خرج بها صباح ذلك اليوم "فالشيخ بما أتاه الله من حكمة وعلم، قد صب عليه بأسلوبه الشبابي ما غير قناعاته , و بصَّره لأشياء لم تكن في حسبانه البتة ".
عزم " منصور " على أن يُغير حياته، فلن يهتم إلا بما يصلح دينه ودنياه، بالقراءات، بالأعمال، بالتصرفات، بالحوارات، ولم يعارضه أبواه فمنسوب الحرية لديهما أكبر مما يتصوره أحد.
قرر " منصور" ألا يعيش في جلباب أبيه، رغم أنه سيعيش معه بارًا به و بأمه، لن يسير على درب أبيه ككاتب قصة، و لا على خطى أمه.
ولكنه اختار أن يعمل في مجال الصحافة و تحديداً الصحافة الإسلامية، التي تهتم بشؤون الإسلام والمسلمين، فلم يطرق هذا المجال إلا القليل، " فمن الصحفيين من يدندنون على رغباتهم الخاصة، أ و بإملاءات ممن يعلونهم في الرتبة و المنزلة , فهم مسيرون و ليسوا أصحاب غاية يعيشون لها أو هدف يناضلون لأجله " رغم كثرة القضايا الإسلامية وأهميتها، المشكلة التي واجهته أن معرفته بهذه الأمور ضعيفة.
أدرك " منصور " أن عليه أن يبدأ في دراسة الإسلام بشموليته، لابد من تغيير كثير من سلوكياته وتصرفاته، فى المأكل والمشرب والملبس، إلى سلوكيات وتصرفات شرعها الإسلام أو أباحها".
استغرب والداه التغيرات الجديدة في البداية،سرعان ما اعتادها عليه.
كان رائده في ذلك الداعية الإسلامي الكبير، اعتبره بمثابة الموجه والمرشد له في القراءات المختلفة، في التصرفات والسلوكيات المبنية على العقيدة السليمة والعبادة الصحيحة.
هجر " منصور" أُناساً كثيرين من رواد بيته، من أصدقاء الأسرة، ربما كانوا سيساعدونه في كثير من المواقف الصعبة، شرع في السير في طريق جديد، لم يكن مفروشًا بالورود والرياحين، و لكنه طريق صعب وشائك، مليء بالمنعطفات والعوائق التي لايصمد أمامها إلا القليل من الرجال.
سخَّر " منصور " ما تعلمه من فنون اللغة الانجليزية و آدابها لخدمة أمته و دينه، في المجال الذي قرر التخصص فيه , برع في ذلك الطريق وأبدع فيه، رأى فيه المختصون تميزاً فريداً، لم يسبقه إليه إلا القليل.
ولأن " منصور" يعمل بالصحافة مهنة المتاعب، و له فكره المميز، طالما كان يسبح ضد التيار، ضد العادات والتقاليد المخالفة لأفكاره، وقف كثيرًا ضد الظلم و الفساد، كشف العديد من الجرائم الخطيرة، كان من القلائل اللذين يصدعون بكلمة الحق مهما كانت النتائج.
طالما زجوا به في السجون مرات عديدة،لكنه لم يتغير، لم يتلون، بالترغيب والتهديد تعاملوا معه، أبى إلا أن يسير في طريقه الذي عشقه، اختاره الداعية الشهير زوجا لابنته الوحيدة " فصبر كثيراً، ولكنه فى النهاية ظفر بالدنيا و الدين.

"4"
الحنجرة الذهبية

" شريف " صاحب صوت ندى وحنجرة ذهبية، بيته قريب من المسجد، ارتبط به منذ صغره، اختاره إمام المسجد ليكون ضمن الأطفال، الذين يقوم بتحفيظهم القرآن الكريم يومياً بعد صلاة العصر، حتى أتم حفظ خمسة أجزاء من القرآن الكريم، قبل أن يبلغ ثماني سنوات، ولما مات إمام المسجد لم يجد من يهتم بإكمال حفظه القرآن الكريم كاملا، ظل يراجع ما حفظه حتى لا ينساه.
في المرحلة الإعدادية اكتشف مدرس اللغة العربية بالمدرسة موهبة " شريف " الفذة في الإنشاد، تبناه، علَّمه أصول الإنشاد، سنحت له فرصة ممارسة الإنشاد من خلال الإذاعة المدرسية، كانت له فقرة يومية ثابتة، شارك في العديد من الحفلات والمهرجانات المدرسية في مدارس كثيرة حتى ذاع صيته.
طلب منه والده أن يسافر و يلتحق بمعهد الموسيقى حتى تصقل موهبته بدراسة أصول الموسيقى، رحب بالفكرة و سُر بها , لا سيما أنها من والده و توافق شيئاً في خاطره , سافر و درس "الكورس" كاملاً إلى أن تخرج من المعهد، بعد أن أكمل العشرين سنة من عمره.
لم يتمنَ أن يكون من المطربين المشاهير، اللذين ليست لهم أهداف سامية في الحياة، يعيشون فى الحياة تقودهم أقدامهم لايدرون إلى أى هدف يتوجهون "، حُلمه الذي عاش من أجل تحقيقه أن يكون منشدًا شهيرًا، يشدو بكلمات لها معانٍ سامية ترتقى بالإنسان بفكره، بسلوكياته، تصوراته.
ولمعرفة العديد من المنتجين بعذوبة صوته وقوتة أدائه،عرضوا عليه الكثير من الأغاني، إلا أنه رفضها جميعا لأن معاني كلماتها مكررة، و خالية من الإبداع، سار في طريق الإنشاد، رغم قلة حفلاته وقلة المقابل المادي.
اجتمع عليه أصحابه، طلبوا منه أن يغير رأيه، يغني الأغاني المعتادة، إنها رغبات الجمهور، فينتشر ويعرفه الناس، ثم يختار كلمات أغانيه كيفما شاء، الظروف المعيشية صعبة على الجميع، المطالب كثيرة، المال قليل، مرغما أخاك لا بطل، حاولوا إقناعه بشتى الطرق، وبكثير من الحجج، يسمعهم، لايرد عليهم، و كأنهم يكلمون أنفسهم.
رغم مرور الأيام والليالي، ورغم أن حُلمه طال انتظاره، إلا أنه لم يفقد الأمل، وحتى يوفر بعض المال، اشتغل عدة ساعات في النهار فى متجر براتب شهري.
في صبيحة يوم من الأيام قرأ إعلانا عن مسابقة لاختيار ممثل شاب يقوم بدور مطرب راحل في فيلم عن حياته، " شريف " شديد الشبه بهذا المطرب سارع بالتقدم ليقوم بأداء هذا الدور، كان حديثه لنفسه بأنه سيقوم بهذا الدور بحلوه ومره " هذا إن كان فيه حلو أساساً، ليس إلا للوصول إلى قلوب الناس و وجدانهم، فيستغل تلك الشهرة.
ثم يقدم لهم نفسه كمنشد ومغني ملتزم، كلمات هادفة، ألحان راقية، تقدم العشرات للقيام بدور المطرب الراحل، تمت التصفية بينه وبين شابين آخرين، اختاروا أحدهما نظراً لقرابته لمنتج الفيلم، حمد الله كثيرًا على ما حدث، فرُب ضارة نافعة، و لربما كان هذا الفيلم سببًا في انحرافه عن مبادئه التي عاش متمسكًا بها.
لم ييأس " شريف "، لم يقنط، لم يستسلم، ظل يبحث عن فرصة عمل، من خلال الجرائد والمجلات والمواقع الالكترونية، حتى فوجئ بإعلان بأحد الجرائد اليومية، قناة فضائية إسلامية تطلب منشدين إسلاميين بشرط ألا يتجاوز عمر المتقدم عن 22 عاماً ويكون لديه إلمام بعلم الموسيقا.
لم يتردد في الذهاب لمقر القناة الفضائية، أجروا له اختبارًا مع بقية المتقدمين، في هذه المرة قرروا اختياره وحده ضمن المتقدمين، سارعوا في تحرير عقد معه ليكون منشد القناة الفضائية الأول لمدة خمس سنوات مقابل مبلغ مالي ضخم، ولم ينسَ "شريف" يوما من الأيام المثل الشعبى القديم : " ادفع التسعة لتأخذ العشرة ".

" 5"بإرادتى أصنع نجاحى

لأن أباها مدرس لغة عربية، استطاع منذ الصغر أن يحببها في القراءة، وخاصة قراءة القصص ومجلات الأطفال، أتقنت تعلم قواعد اللغة العربية الفصحى، تدربت على الخطابة وكتابة الموضوعات الإنشائية، عشقت الأدب حباً في أبيها وطاعةً له، كلما تنفذ توجيهاته بإتقان يلبى لها طلباتها، يقدم لها الهدايا والجوائز.
في المرحلة الابتدائية والإعدادية، أجمع المعلمون على أن " سمر " هي الخطيبة الأولى بين زميلاتها، لم تستطع إحداهن أن تنافسها في الخطابة أو كتابة المواضيع الإنشائية، طالما حصدت الجوائز والهدايا، بحصولها على المراكز الأولى في المسابقات الثقافية و الأدبية , حتى في الحصص التي يتغيب عنها المدرسات، و هي تشكل رقماً كبيراً كانت تمسك قلمها و تكتب خواطراً و قصصاً , فيما زميلاتها لا يفوتن الفرصة في الموضاعات التافهة والبرامج والمسلسلات التلفزيونية.
في المرحلة الثانوية، استمرت " سمر " في المواظبة على القراءة في المجالات الثقافية و الأدبية وعلى الكتابة " و تغيرت مكافآتها من الشكولاته إلى " بلاك بيري و آيبود و آيباد " , فلكل زمن مغرياته , و لكل سن طلباته :) ".
"سمر" لم تفُتها أي ندوة عُقدت بالمدرسة، و توفر أي مصروف أو هدية نقدية تحصل عليها استعداداً لأي معرض كتاب يُقام , فمتعتها التي تعشقها معارض الكتاب , كما أنها كانت متفوقة في جميع المواد، خاصة في مادة اللغة العربية.
تنفيذا لرغبة أبيها الذي فقدته في السنة الأولى من المرحلة الثانوية، و حزنت حزناً عميقاً لذلك , فقد أصرت على أن تحقق أمنيته و هو في قبره , التحقت بكلية الآداب قسم لغة عربية، اجتازت السنة الأولى بتقدير امتياز.
اتجهت " سمر " إلى كتابة القصص القصيرة " فالناس لا تحب إلا السريع السريع , فنحن في زمن الكبسولات المختصرة فدونك التويتر و ما رواج التسالي إلا أكبر دليل على ذلك :) "، إبداع في الفكرة، ورصانة في العبارات، الجاذبية في الأسلوب، نجحت في كتابة قصص بسيطة على المستوى البسيط , و من ثم زاد العدد إلى عشرات القصص.
أمنيتها أن تنشر هذه القصص في كتيب ليس بالكبير ولا بالصغير، يقرؤه الناس، خاصة الشباب من الجنسين، مرت على العديد من دور النشر، لم تقبلها أي منها، فهي صغيرة السن، ليست من الكتاب المشهورين، و بالطبع لا تمتلك الأموال اللازمة لطباعتها على نفقتها الخاصة.
قررت " سمر " أن تتحدى الواقع و ألا تستسلم للفشل، أنشأت لها مدونة على شبكة الانترنت، أسمتها باسم أبيها، تخليداً لذكراه و اعترافاً بفضله , لتدعو له و يدعو له كل من مر عليها " فالبر لم ينقطع بعد الموت , و لعمري لهذا أقل الحقوق و أبسطها , ولد صالح يدعو له , و هي قد تخطتها إلى غيرها :).
قامت بتجميع أعداد كبيرة من الإيميلات لكبار الكتاب والأدباء والنقاد والناشرين، أرسلت إليهم جميعًا مجموعتها القصصية الأولى، لم يمر سوى يومين، انهالت عليها رسائل المدح والثناء من كل صوب وحدب، و لم تخلو من رسائل التندر و التحطيم " فهناك العديد من الناس أخذ على عاتقه أن يعيقوا أى مشروع طموح، فالسلبية قد تغلغلت في عقولهم، شفاهم الله :) ".
كانت " سمر " ذكية في التعامل مع الكل، فتشكر كلاً بحسبه، و أتاها ما كانت تحلم به، ولكن ليس بهذه السرعة، إذ كانت أجمل رسالة هي رسالة إحدى دور النشر، تعرض عليها نشر مجموعتها القصصية الأولى مقابل مبلغ مالي لم تحلم به قبل.
ليتحقق حُلمها الذي احتضنته طويلاً بصدور مجموعتها القصصية الأولى والتي أسمتها
" لأجلك يا أبي " ولتتوج هذه المجموعة بأول قصة حملت عنوان " بإرادتي أصنع نجاحى ".


"6 "الإعاقة الحقيقية

بات " شادي" قعيد الفراش، عقب إصابته بإصابات بالغة، اثر حادث مروري مروع، إنه الوحيد الذي نجى من ركاب السيارة الذين لقوا حتفهم جميعا.
بأمر الأطباء الحركة ممنوعة و صعبة، لقضاء الحاجة، الزيارات أيضا ممنوعة، فقَد عمله لعدم قدرته على الخروج، لايوجد له دخل آخر، اللهم إلا الراتب الشهري لزوجته، فهي تعمل مدرسة في المدرسة المجاورة لبيتهما، بنظام البديلة للمدرسات اللاتي ينتظرن التثبيت، من قبل الوزارة الكريمة أسوة بزميلاتهن مدرسات محو الأمية.
أخبره الأطباء بأن حالته صعبة، ولكن يمكن أن تتحسن إذا التزم بالراحة و تناول العلاج بصورة منتظمة، أمامه مدة زمنية طويلة لا تقل عن سنتين، حتى يعود إلى حالته الأولى.
منذ نعومة أظافره، اشتُهر " شادي" بين أقرانه بالجدية وقوة التحمل، ليس للكسل أو لليأس مكان في قلبه، يصبر على الابتلاءات و المصائب، يتحدى الصعاب، يجيد الصمت و الاستماع إلى الآخر، أفعاله أكثر من أقواله.
بالاستسلام لقدر الله والرضا بقضائه تقبل الأمر، لديه يقين لا يتزعزع بأن مع العسر يسرين، وأن عسرا لن يغلب يسرين.
المشكلة الكبرى التي كان يعانى منها هي المكالمات الهاتفية الاستفزازية، مكالمات من الأقارب و الأصدقاء، كلماتهم تنزل عليه كالصواعق،فيقشعر جسده ويقف شعره، يستشعر من أحاديثهم بأنه مثار لشفقتهم، فهو في نظرهم كلٌ على أهله لا يقدر على شيء، كثيرا ما كان يُغلق هاتفه الجوال.
لا، لا، لن أستسلم للمرض، لا، ولن أكون عاجزا، ولن أرضى بأن تتحول حياتي إلى جحيم، هكذا حدث " شادى" نفسه، بل أخذ قلماً وورقة وكتب بلغة الأمل والتحدي " الإعاقة الحقيقية إعاقة الروح لا الجسد يا شادي "
قرر أن يتحرك ويعمل عملا ما، ولكن كيف يتحرك ؟، وكيف يعمل ؟ وهو على الفراش لا حول له ولا قوة، اللهم إلا بعض الحركات القليلة جدا، شريطة ألا ينزل من على الفراش.
ظل يفكر ويفكر يوما كاملا، ماذا يصنع ؟ وكيف يتصرف ؟، إلى أن هداه الله إلى فكرة، كان قد اشترى جهاز " لاب توب " قبل وقوع حادثته بعدة أيام، بعد أن اجتاز دورة في الكمبيوتر، ودورة أخرى في التسوق عبر الإنترنت.
طلب من زوجته أن تأتى بجهازه قريبا من سريره، دخل على شبكة الإنترنت، بدأ يمارس تدريجيا عمليا كيفية التسوق عبر الإنترنت، يبحث عن شركات وطنية وأجنبية، تبيع أنواعا معينة من البضائع، يستفسر عن سعر الشراء، عن المعلومات الدقيقة ومميزات تلك البضائع، ثم يبحث عن مشترين لها و يتفق على سعر بيع به هامش من الربح.
داوم على الاتصال والتعرف على كبرى الشركات، بدأ يُعلن من موقعه الذي أنشأه عن تلك المبيعات وعن مواصفاتها، يبحث، يرسل الرسائل إلى الكثير من المواقع الإيميلات.
ولأن أول الغيث قطرة فقد تلقى بعض الرسائل القليلة بعد بضعة أسابيع، ثم ازداد عددها تدريجيا، بعد خمسة أشهر انهالت عليه الرسائل من أماكن عديدة ومن مدن مختلفة، هذا يعرض وذاك يطلب.
زادت خبرته، اتسعت شهرته، في التعامل والتفاوض مع الشركات والأفراد، يشترى، يبيع، يربح من المال ما لم يحلم به في حياته ,سرعان ما زاد الربح بالمئات ثم بالآلاف.
مرت فترة المرض سريعا على غير المعتاد، نسى أنه مريض،أتاه الله بالشفاء سريعا، أسرع مما توقعه الأطباء، بعد أن تحرك لم يعد إلى عمله القديم، افتتح شركة تجارية ضخمة، أقام احتفالا ضخما ليس لافتتاح الشركة الجديدة فحسب، وإنما احتفالا بالشفاء والفرج أيضاً..
ويقف شادي أمام الحضور ويُخرج من جيبه ورقة نظر إليها مبتسماً ليقول بصوت عالٍ " الإعاقة الحقيقية إعاقة الروح لا الجسد يا شادي "

"7 "دع الفشل وانطلق للنجاح

مشكلته الكبرى التي طالما عانى منها، منذ دخوله إلى المدرسة الابتدائية، رد فعل الأطفال زملائه حينما ينطق أي كلمة، يدخل ضمن مكوناتها حرف الراء، و مما يزيد الأمر سوءً أن اسمه " كريم "، والذي عادة ما ينطقه عدة مرات يوميا، فإذا سُئل عن اسمه فانه ينطق اسمه " كليم "، يقلب حرف الراء إلى حرف اللام.
في اليوم الواحد تتكرر مواقف السخرية و التهكم و الضحك المتواصل من الزملاء، و في بعض الأحيان ربما يشاركهم مدرس الفصل"، الأمر الذي كان يثير " كريم"، فيشعر بالضيق و الغضب، بالرغم من أنه أذكى منهم، و أكثرهم إجادةً في حل الواجبات المدرسية.
آثر " كريم " العُزلة، انزوى بعيدا عن زملائه، لم يتخذ من أحدهم صديقاً له , أحلى أيامه هي أيام الإجازة الصيفية، والإجازات الرسمية، يستشعر فيها الراحة و الأمان بعيداً عن جو المدرسة الذي لا يطيقه، كلما اقترب موعد الدراسة ضاق صدره، و ساءت حالته النفسية , كثيراً ما كان يسوق الحجج والمبررات لوالديه للتغيب عن المدرسة، مما أثر على مستواه الدراسي.
المرشد الطلابي بالمدرسة لاحظ حالته، جمع المعلومات الكثيرة عنه من المدرسين و من الطلاب و من زملائه، أرسل إلى والديه وقابلهما، أبدى لهما خطورة الأمر، الأمر جد لا هزل فيه، ربما يضيع مستقبل الطفل، إذا لم نواجه المشكلة معاً، المدرسة والبيت، هذا ما قاله لهما.
وضع المرشد الطلابي المخلص" خطة العلاج، كان من أهم أركانها إعادة الثقة للطفل، والتأكيد على أنه أفضل التلاميذ خُلقاً وعلماً، و عليه أن يتعايش مع زملائه و أن يتفاعل معهم.
أفهموه أنه إذا كان به عيب، فكل من حوله بهم عيوب ربما يعرفها، وربما لا يعرفها، قد تكون عيوبهم أخطر من عيبه ن ولا يوجد فى الكون انسان بلا مشاكل، والمشكلة التي يعاني منها أمر طبيعي و يمكن تخطيها بوسائل عديدة.
شرعوا في تنفيذ الخطة الموضوعة لإنقاذ الطفل , سرعان ما ظهرت النتائج الطيبة، بعد ثلاثة أشهر عاد إلى سيرته الأولى، هو الأول على زملائه، الأسرع في الإجابة على الأسئلة الشفوية، و الذي عادةً ما يحصل على الدرجات النهائية في الامتحانات الشهرية، استمر النجاح والتفوق في السنوات التالية.
و في نشاط الخطابة على مستوى المركز التابعة له مدرسته , شارك في مسابقة فرسان الإلقاء , و حصل على المركز الثاني فيها , و تبدأ العقدة تنفك يوماً بعد يوم بتكاتف جهود البيت و المدرسة , و للمرشد الدور الأكبر في ذلك.
يتخرج " كارم " من المدرسة الثانوية حافظاً لنفسه المكانة العالية , وتستمر علاقة المرشد معه حتى بعد تخرجه , لأنه رأى فيه علامات النجابة.
و تدور دائرة الأيام إلى أن يأتي ذلك اليوم الذي كُرم فيه بحصوله على جائزة الدولة التقديرية في مجال العلوم والآداب، لأنه أحد العلماء المشهورين و الخطباء المفوهين، أقاموا له احتفالاً ضخماً أمام كاميرات التلفزة المحلية والعالمية، لم يستحِ أن يروى حكايته مع زملائه في المدرسة الابتدائية بسبب حرف الراء، في نهاية كلمته، قال لهم :
مازالت نصيحة المرشد الطلابي محفورة في ذاكرتي، وهي :" دع الفشل وانطلق للنجاح" , إلى أن تطور به الحال،أن يتفق مع شخص يتولى تنسيق مواعيد ظهوره على القنوات و يرتب له مواعيد محاضراته و دروسه , إذ لا يمر أسبوع دون أن يشارك في ثلاث مناسبات على الأقل.


"8"اكتشاف

"سلامة" لاعب كرة قدم متميز، بشهادة الجمهور والنقاد، صاحب خلق رفيع، وروح رياضية عالية، لديه عقلية أكبر من سنه، فى فترة وجيزة، استطاع أن يكون أمير قلوب جماهير ناديه، وجماهير الفرق المنافسة.
داخل المستطيل الأخضر، "سلامة " هو الأقرب لزملائه اللاعبين،إذا أجاد أحدهم وجده أول ُمهنئيه، وإذا خانه التوفيق كان أول المواسين له، فى الأفراح والأتراح خارج الملعب لايتركهم، الصدر الحنون لكبيرهم وصغيرهم،كاتم أسرارالجميع، بالإجماع اختاروه"كابتن "الفريق، بالرغم من أنه ليس أكبرهم سنا، ولا أقدمهم لعبا فى النادى.
رأى مدرب الفريق فى "سلامة" أمراً عجيا، لم يره فى لاعب آخر، فى المباريات السهلة يطلب منه أن يعطى فرصة اللعب لزميله، الذى عادةً ما يلعب له احتياطيا،حتى لا تتأثر نفسيته سلبا، لإبتعاده عن الملاعب مدة طويلة.
فى احدى المباريات وقع داخل منطقة جزاء الفريق المنافس، فاذا بحكم المباراة، يطلق صفارته، يعلن عن ضربة جزاء لصالحه، اقترب " سلامة " من حكم المباراة،همس فى أذنه أن اللاعب المنافس لم يعرقله، ألغى الحكم قراره، صفقت له جماهير الفريقين.
بلغ "سلامة" من العمر سبعا وعشرين سنة، وصل إلى أوج مجده الكُروى، اختير كأحسن لاعب فى بلده وفى قارته، لفت نظر العديد من الأندية الأوربية ليلعب لديها، موهبته الفذة أعطته الأمل فى امكانية اللعب فى أوربا، تعلم اللغة الإنجليزية حتى أتقنها.
لم يكتفِ "سلامة" بتعلم اللغة الإنجليزية فحسب، وإنما شرع فى استكمال تعليمه الجامعى، فارتباطه بكرة القدم لعبًا وتدريباً،عطله عن الإستمرار فى التعليم،اختار كلية الآداب قسم التاريخ، لشغفه بمعرفة أخبار الشعوب والدول، وعادات وتقاليد البشر، والإطلاع على الخبرات والتجارب الإنسانية المختلفة.
بعد عام من حصوله على أحسن لاعب فى القارة، فى احدى المباريات، وفى لُعبة مشتركة مع لاعب منافس أُصيب اصابة خطيرة،أقعدته عن اللعب نهائيا، الجماهير التى أحبته أُصيبت بخيبة أمل لم ترها من قبل، فقدت الملاعب نجم نجوم الكرة فى وطنه.
لمدة شهر كامل لم تنقطع التقارير والتحقيقات الصحفية، عن اللاعب القدوة، عن حياته، نشأته، موهبته، أخلاقه، وكذلك القنوات التلفزيونية، والمجلات الرياضية فى البلاد،لم تتوقف عن الحديث عن صاحب الموهبة الفذة، التى حُرمت الجماهير الرياضية منها.
أما "سلامة"المصاب فقد استقبل الأمر بالرضا بقضاء الله وقدره، قال لمن حوله: إذا كنت حُرمت من موهبتى فى اللعب فى ريعان شبابى، فقد حبانى الله بنعم كثيرة، وأغلاها حب الناس لى، ولن يُقدر لى ربى الا الخير.
لم يستسلم "سلامة" للظروف التى وُضع فيها، استخار ربه، استشار من حوله من أصدقائه المخلصين، ما هو الطريق الأفضل له ؟،هل يسير فى طريق دراسة التاريخ ويتبحر فيه ؟، أم يسلك طريق التدريب فى كرة القدم التى عشقها ؟،أم يدخل مجال الإدارة فى الأندية الرياضية؟،أم يعمل فى مجال الصحافة الرياضية ؟، لم يتوقف شهراً كلملا عن التفكير المتواصل، وعن الإستخارات والإستشارات.
قبل ان يتخذ "سلامة" قراره النهائى، فى أى طريق سيسير، حمد الله كثيراً، فأبواب الرزق مفتوحة، وأموره ميسرة، ولا يوجد أى عائق أمامه، تذكر أن مذيعا تلفزيونيا كان قد أخبره منذ عامين، بأنه يمتلك موهبة التعليق الرياضى، وأمامه فرصة عظيمة ليدخل فى هذا المجال، لو أخذ بالأسباب، وشرع فى تنمية موهبته وصقلها.
قرر أن يسلك مشوار التعليق الرياضى، اجتازعدة دورات فى فن التعليق الرياضى، ودورات فى فن التحدث وفى فن الإقناع، شرع فى دراسة أحدث طرق اللعب، و القراءة عن أشهر اللاعبين، وأطرف المواقف فى تاريخ اللُعبة، أجرى العديد من المقابلات مع كبار المعلقين والمحللين الرياضيين، للإستفادة من خبراتهم وتجاربهم.
لم يستعجل"سلامة" الظهور على شاشات الفضائيات معلقا رياضيا، فضَّل التريث، والعمل الجاد حتى يصل إلى المستوى اللائق، فهناك الكثير من المعلقين الرياضيين، وحتى يكون له قبول لدى المشاهدين، فعليه ألا يكون صورة مكررة، ممن سبقوه فى عالم التعليق الرياضى، ظل على ذلك سنتين حتى أجازه المتخصصون،ومنذ أول مباراة قام بالتعليق عليها، تنافست القنوات الفضائية على التعاقد معه.

"9"رحلة مع الذكريات

قبيل ذهابه لإفتتاح معرضه الأول، وقف "حسام" أمام المرآة، يهندم ملابسه، يمشط شعره، يضع العطر، تزاحمت عليه الذكريات، تذكر يوم أن أخذ قلم الألوان من أخته، كتب اسمه على جدران البيت، على الطاولة، على الشبابيك، على الأبواب، على كل مكان استطاعت يده الصغيرة أن تصل إيه، شوَّه جدران المنزل.
تذكر "حسام" لحظة دخول أبيه البيت، بعد أن انتهى من ارتكاب فعلته، الأب يستفزه المنظر، يشتاط غيظا،الطفل لا يأبه لغضب أبيه، بفطرته يستقبل أباه فرحا، يأخذه من يده، يُطلعه على اسمه الذى استطاع كتابته بنفسه لأول مرة، الخط جميل بالنسبة لسنه الصغير، والخطأ فادح، كان تصرف أبيه عجيبا، عاقبه على خطئه بأن حرمه من مصروفه لمدة يومين، ألزمه بتنظيف الجدران، وقدم له هدية قيمة لحسن خطه.
لم تكن موهبة الخط الجميل، التى يمتلكها "حسام"،هى الوحيدة التى اكتشفها أبواه منذ صغره، وإنما كانت هناك موهبة أخرى، ربما كنت أهم، وهى موهبة الرسم، فقد تفنن فى رسم الأشياء، بصورة أدهشت كل من يراها، وكأن ما يرسمه صورة فوتغرافية.
العيب الوحيد لـ"حسام"، والذى ظل طيلة طفولته لصيقا به، هو الكتابة والرسم على غلاف أى كتاب فى البيت، فى كراسة أخته المدرسية، لا يكترث حين يرسم عصفوراً على جدار المنزل، أما جدران المنازل المجاورة فانه يستشعر بأنها تزداد جمالا، بما يرسمه عليها من شجر وورود وحيوانات، لم تسلم السيارات المصفوفة فى الشوارع، حتى أنه لا يمر يوم واحد دون أن تُقدم فيه شكوى إلى والديه.
لم تفلح مع الطفل "حسام " سياسات الضرب،التوبيخ،التعنيف، التهديد،توقف الأب عن اتباعها، اتبع سياسة الترغيب، أتى إليه بأدوات الرسم، من كراسات الرسم، وأوراق رسم متنوعة، والأقلام بأنواعها المختلفة، وفُرش الألوان، ولم ينسَ الأب إحضار حامل خشبى لتثبيت اللوحات عليه، كانت النتيجة توقف الطفل عن سلوكه الشائن.
على مسرح الذكريات، فى الفصل يسأل المدرس تلامذته، واحداً تلو الآخر سؤالا واحد، فيما أنفقت مصروف العيد ؟،جاءت الإجابات متشابهة، فى شراء الألعاب، الحلوى، التنزه،...، أما إجابة الطفل "حسام " فكانت مختلفة، ومدهشة أيضا، لقد أنفقت مصروف العيد فى شراء أدوات جديدة للرسم،وعدة كتب ومجلات خاصة بتعليم الرسم،فأنا أعد نفسى من الآن لأكون رساما شهيراً.
ظل يسرح بذكرياته، التى أنسته وقفته أمام المرآة، تذكر يوم أن غضب منه أبوه، عندما تعدى على أخته الصغيرة بالضرب، فأقسم ليضربنه،مما دعاه إلى الهروب من البيت، ذهب مهرولا إلى بيت عمته القريب من منزلهم.
عاد الطفل "حسام" أدراجه إلى المنزل مساءً، يعترف بخطئه،طلب من أبيه ألا ينفذ عقوبة الضرب فيه، الا بعد أن يطلع على لوحة كانت بيده، نظر الأب فى اللوحة المرسومة، فاذابه يرى نفسه فى اللوحة، واقفا مقتضب الوجه، يبدو عليه الغضب الشديد، يمسك بعصاه، ليضرب بها "حسام" الواقف أمامه مستسلما، تسيل الدموع من عينيه،ألقى الأب باللوحة، احتضن ابنه، ظل يُقبله مرات عيديدة، عفى عنه، ضربه بالسواك ضربة خفيفة، ليبر بيمينه.
لم تغب أم "حسام"عن عالم ذكرياته، تذكر يوم قال له زميله فى المدرسة، أنه سوف يأتى لأمه بهدية قيمة بمناسبة العيد، كان قد أنفق مصرفه كاملا ولم يتبقَ منه شىء، ولم يرضَ أن يطلب مصاريف أخرى، ماالعمل ؟، إنه يرغب فى احضار هدية قيمة لأمه، ولكن جيبه خاوٍ من المال، سهر ليلةً كاملة، لم يذق فيها طعم النوم.
على لوحة رسم أمه، وهو يمسك بيدها اليمنى يقبلها، ويدها اليسرى تضعها بحنان على رأسه، تمسح شعره،كتب تحتها " الجنة تحت أقدام الأمهات"، حتى أُذن لصلاة الفجر، أيقظها، أعطاها هديته، طلب منها أن تسامحه على تقصيره فيها، وأن تدعوَ له،كانت فرحتها عارمة، مازالت تحتفظ بتلك الصورة.
تذكر أول لقاء جمعه مع الفنان الشهير، الذى عرَّفه به خاله،أول وصية أوصاه بها الفنان الشهير، هى أن موهبتك فى الرسم أمانة فى عنقك أمام الله، فهى كالسكين، إما أن تستخدمها فى الخير فلك الأجر مضاعف من عند الله، وإما أن تسخدمها فى الشر فعليك وزرٌ كبير، فربما تكون سببا فى تحريض الناس، على فعل الخير من خلال رسوماتك، فيعطيك الله بها حسنات بلا حساب.
طالت وقفته أمام المرآة، يسبح فى بحر ذكرياته العميق، انتشلته منه أمه، حينما دخلت عليه غرفته، تستعجله للذهاب إلى المعرض، فقد اقترب موعد الإفتتاح.
دخل "حسام " الشاب الذى لم يُكمل العشرين من عمره، إلى معرضه الفنى الأول، وسط عاصفة هائلة من التصفيق، أعداد غفيرة من المدعوين، يمرون على اللوحات الفنية التى رسمها الفنان"حسام"، يبدون اعجابهم، لايخفون دهشتهم، كيف استطاعت أنامل هذا الشاب الصغير أن ترسم تلك اللوحات الفنية الراقية ؟.
كان من ضمن المدعوين فنانون مشاهير، أجمعوا على أن "حسام " صاحب موهبة فذة، ويعتبر ثروة قومية للبلاد، ينبغى أن يُهتم بها، ويُحافظ عليها،وعليه ألا يُصاب بالغرور، العدو الأول للمواهب، فهو أسرع داء للقضاء عليها سريعا.
بمجرد انتهاء كبار الضيوف من التعليق على اللوحات وصاحبها، تزاحمت كاميرات التلفزة المحلية والعالمية على صاحب الفرح الفنان"حسام "الذى تكلم بتواضع العظماء،وعدهم بالإستمرار فى اتقان عمله، والإهتمام بفنه،واستكمال الدراسة بكلية الفنون الجميلة.
لكن الفنان "حسام" المتواضع لم يستطع رفض العروض التى انهالت عليه من كُبرى المجلات والصحف، ودور النشر للعمل معها كرسام، مقابل مبالغ هائلة، لم يحلم بها من قبل، طلب من الحضور الدعاء له بالبركة والتوفيق، أنهى الإحتفال وهو يقف بين والديه، يقبل رأسيهما.

"10"نكهة النجاح

لم يره أحد من المتخصصين الا وحكم عليه، بأنه لن يكون الا مذيعا تلفزيونيا، فنبرات صوت " سمير" مميزة، ولديه قدرة هائلة على التأثير بالآخر، من خلات تعبيرات وجهه،ونظرات عينيه، حديثه يجذب قلوب مستمعيه، يتكلم اللغة العربية الفصحى، ببساطة ودون تكلف، ثقافته واسعة، متابع جيد للأخبار السياسية، لا يكف عن القراءة فى مجالات عديدة.
أبدى الكثير إعجابهم بموهبة "سمير" الفائقة، لِما رأوه من طريقة متميزة عند قيامه بتقديم فقرات احتفال فى مناسبة دينية أو وطنية أو سياسية، منذ أن كان طالبا فى المدارس.
لم يستقبل "سمير" الكثير من الإعجاب والثناء والمدح، بصورة من الإستعلاء والغرور، أخذ الأمر على محمل الجد، لا تمر عليه ساعة الا واستفاد منها، استثمر جُل وقته فى الإطلاع على الكتب المتخصصة فى المجال الإعلامى، من صحافة وتلفاز واذاعة،يبحث دائما عن الأماكن العامة، التى يرتادها مشاهير الإعلاميين، لمقابلاتهم والتعرف عليهم، ومحاولة الإستفادة من خبراتهم.
وحتى يحقق "سمير" حُلمه التحق بكلية الإعلام - قسم اذاعة وتلفزيون -.
برز بموهبته وثقافته الواسعة من بين الطلبة، فعرفه الأساتذة، أشادوا به، شجعوه، قدموا له نصائحهم، كانت النصيحة المهمة ضمن كل النصائح الكثيرة، هى " ألا تيأس "، قالوا : لا تتوهم أن طريقك مفروش بالورود والرياحين، طريق الإعلام صعب للغاية، إن لم تمتلك قدرة على الصبر والصمود، فالأفضل لك أن تبحث عن طريق آخر.
حصل "سمير" على الشهادة الجامعية فى مجال الإعلام - قسم اذاعة وتلفزيون-، ترتيبه التاسع على الكلية، دقت ساعة العمل،دقت ساعة الإنطلاق لتحقيق حُلمه الذى لم يفارقه، شرع فى البحث عن وظيفة، يقرأ الجرائد اليومية، وخاصة باب الإعلان عن الوظائف الشاغرة، ظل على هذا الحال سنة كاملة.
لم يجد أية فرصة، الا أن يعمل بائعا للكتب فى احدى المكتبات، رضى بذلك حتى يأتى الله له بالفرج، وأيضا فهى فرصة ليستفيد بالوقت فى القراءة، مازال يتذكر نصيحة أساتذته فى الكلية، أن الطريق صعب وشاق.
وبعد مرور السنة التالية على تخرجه، قرأ "سمير" فى الجرئد إعلانا، عن قبول دفعة جديدة من المذيعين فى التلفزيون، كاد قلبه يطير من الفرح،شرع فى الإستعداد للمقابلة بمراجعة بعض الكتب، مع أنه لم يتوقف عن القراءة منذ سنوات.
بدأ العد التنازلى ليوم المقابلة، هل سيكون هذا اليوم بدايةً لتحقيق الحُلم الذى تمنيت تحقيقه ؟ أم سيكون بدايةَ مرحلة تعاسة أعيشها لسنوات طويلة؟، هكذا ظل ليلةَ المقابلة يحدث نفسه مرات عديدة - دون أن يسمعه أحد-، من شدة الإرهاق وطول السهر ليالٍ متتالية غلبه النوم.
أمام الغرفة المعدة للمقابلة، حضر "سمير" مبكراً، وجد أعداداً غفيرة، تقدموا آملين أن يُعينوا مذيعين، الطريف أن المطلوب عشرة فقط من المتقدمين والمتقدمات، اللذين يبلغ عددهم الألف متقدم، قال لمن حوله، تحيا بلادنا الحرة، طبعا بطريقة ساخرة، معظم المتقدمين، يعرفونه، لبروزه بينهم ابان فترة الجامعة، قال له أحدهم : طبعا ستكون أول المقبولين لتَميزك، قال له: سَلم يارب سَلم، خوفاً من الحسد.
أمام لجنة القبول وقف "سمير" ضمن عشرة متقدمين، فنظام الإختبار كل عشرة متقدمين يُختبرون معاً، كان أفضلهم مستوى، وأسرعهم بديهة.
بهر أعضاء اللجنة بإجاباته القوية، الا أنه هو الوحيد الذى سألوه عن وظيفة أبيه، أخبرهم بأن أباه يعمل فلاحا، طأطأ رئيس اللجنة رأسه، وضع عينيه فى الأرض.
استشعر "سمير" حقيقة الأمر، فالوساطة هى المعمول بها، وليست الكفاءة، انسحب من المقابلة، عرف النتيجة مبكرا، لم يحزن على نفسه،بقدر حزنه على بلده،التى تسير فيها الأمور بطريقة تخلو من العدل والمساواة، هل الفِلاحة عار على الفلاح، فلا ينبغى عليه أن يُعلم بها أحداً ؟.
سار "سمير" فى الطريق، ماشياً على قدميه، رغم بُعد بيته عن المكان، إلى أن أُجهد، اشترى جريدة الصباح، مع أن آذان الظهر قد حان موعده، استقل السيارة، فتح الجريدة، قرأ خبراًعجيبا، انتحار شاب خريج كلية اقتصاد وعلوم سياسية، لرفض تعيينه فى السلك الدبلوماسى لعدم لياقته اجتماعياً، رغم اجتيازه اختبارات القبول، ونجاحه بتفوق علي أقرانه المتقدمين!!!.، عندئذ، قال لنفسه، يا للهول، أأضحك أم أبكى ؟، فى هذه اللحظة ينطبق علىَّ المثل المصرى الشعبى " من يرى مصيبة غيره تهون عليه مصيبته "، الحمد لله أننى لم أفكر فى الإنتحار، ضحك "سمير" والدموع تسيل من عينيه، لايدرى لأى سبب يضحك، أو لأى سبب يبكى.
مر عليه عشرة أيام بعد المقابلة، عاشاها حزينا على وضعه المأساوى فى وطنه، فجأة وأثناء سيره فى الطريق، متجها إلى المكتبة التى يعمل بها، قابل "سمير" أحد أساتذته فى الكلية، تذكره فوراً، سأله عن أحواله، لم يتردد فى اخباره بكل ما حدث له، وعن حالته النفسية السيئة التى يمر بها، ذكَّره بالنصيحة المهمة التى قدمها له الأساتذة، وهى "ألا تياس"، أعطاه رقم هاتف أحد أصدقائه، من كبار الصحفيين، عسى ان يجد لك وظيفة فى جريدته التى يعمل بها.
بعد مقابلة الصحفى الكبير لـ "سمير" استشعر أن الحظ بدأ يبتسم له، وعده بوظيفة صغيرة فى قسم التحقيقات فى الصحيفة، على الفور استلم العمل، وضع فيه كل طاقاته، كان مثالاً فى الإنضباط والإلتزام فى العمل، لم يتعالَ فى طلب النصيحة من الصحفيين الأقدم منه فى العمل، يستقيد من خبراتهم، حتى استطاع خلال ثلاثة أعوام أن يكون من أعمدة قسم التحقيقات فى الجريدة، مازال حُلم المذيع التلفزيونى يراوده، ولكن أنَّى ذلك ؟.
فى صبيحة يوم من الأيام دخل على الصحفى "سمير"، صحفى حديث فى قسم التحقيقات، تبدو عليه أثار الإرتباك، طلب منه خمسين جنيها قرضا ً، أخبره أن حافظة نقوده قد سُرقت أثناء مجيئه للعمل، سريعا ودون تردد أعطاه المبلغ،لا يدرى "سمير" ما يخبؤه له القدر بسبب هذا المبلغ القليل، وفى اليوم التالى رد المقترض المبلغ وشكره.
بعد مرور ثلاثة أسابيع على واقعة القرض، رن جرس الهاتف فى مكتب الصحفى "سمير"، من معى ؟،أجاب الطالب : أنا صاحب القناة الفضائية الجديدة، وسبب المكالمة أنى أرغب فى تعيينك مُقدما تلفزيونياً لأحد البرامج السياسية المهمة، ولم أجد أفضل منك.
استهل المذيع التلفزيونى "سمير" عمله فى القناة الجديدة، بعد أن وافقت له ادارة الجريدة، على إجازة بدون مرتب لمدة ثلاث سنوات.
بعد أن أُذيعت الحلقات الثلاث الأُول من برنامجه السياسى، انهالت الإعلانات التجارية على ادارة القناة الجديدة،فرح صاحب القناة فرحا شديدا، اتصل به هاتفيا ليقدم له التهنئة بنجاح برنامجه الهائل، قال له أنا لا أشكرك، بل أشكر من اقترح تعيينك فى قناتنا، إنه الصحفى الحديث، صاحب المبلغ المقتَرض، ابن شقيقى، هنا تذوق "سمير" نكهة النجاح، بعد طول انتظار.


"11"
ثمن الدقائق

فوجىء رواد المكتبة الكبيرة، الواقعة وسط المدينة، بالتعديلات التى أُجريت عليها، المكان غاية فى النظافة، الأرفف حديثة، توضع عليها الكتب بصورة تلفت نظر المشترين، لم تعد هذه المكتبة مجرد مكتبة مدرسية فقط، كما كانت من قبل، فنوعيات الكتب المعروضة زادت، كتب تقافية، أدبية، قصص للأطفال، روايات لكبار الكُتاب، مجلات، دواوين شعر، كتب علمية،اسطوانات كومبيوتر تحمل قصائد شعرية، بأصوات كبار الشعراء والمذيعين.
أصابتهم الدهشة، بهرهم الوضع الجديد، أتوجد مثل هذه المكتبة الرائعة فى مدينتا ؟ هذه النوعيات من الكتب التى كنا نعانى الأمرين من السفر إلى القاهرة، لحضور معرض الكتاب الدولى كل عام لنأتى بها، نتحمل مشقة حملها لنعود فرحين بها،هكذا تساءل رواد المكتبة فيما بينهم. أثناء تبادلهم للحديث،فاذا بشاب لم يروه من قبل فى المكتبة قبل تجديدها، يُعرف نفسه لهم، عرفوا منه أن اسمه"فهد"، اشترى المكتبة من صاحبها السابق منذ بضعة أسابيع.
رأوا فيه شخصية مهذبة، تتسم بالنشاط والحيوية، الإبتسامة لا تفارق شفتيه، يجمع بين التواضع فى التعامل والثقة بالنفس، يوما بعد يوم تعمق التعارف بينه و بين معظم روادالمكتبة.
من خلال الزيارات المتكررة للعديد من المثقفين، بسبب تطوير وتجديد المكتبة، بدأوا يتعامون مع "فهد" بالدرهم والدينار، فظهرت لهم شخصيته دون تكلف أو تملق،عرفوا أنه ذو ثقافة واسعة.
وبعد أن كانت مدة مكث أى شخص داخل المكتبة لا تستغرق دقائق معدودات، صار الكثير من رواد المكتبة، يمكثون وقتا طويلا داخل المكتبة، ربما تزيد عن الساعة، بسبب جاذبية حديث"فهد" وجمال عباراته.
انبهر العديد من المثقفين فى المدينة بشخصية "فهد"، مما دعاهم إلى دعوته لحضور الصالون الفكرى الذى يُعقد فى بيت أحدهم مرة أسبوعيا.
فى الموعد المحدد حضر "فهد"، ليستمع إليهم، يستفيد منهم، فوجىء بأن الحاضرين كلهم يرغبون فى الإستماع إليه، وتوجيه الأسئلة والإستفسارات لمعرفة آرائه فى المجالات الثقافية، السياسية،الدينية
،الإجتماعية، وغيرها من المجالات المختلفة، ازداد انبهارهم به لما تكلم معهم باستفاضة.
استشعر الحاضرون وكأنهم أمام أستاذ جامعى متخصص، يتحدث فى تخصصه بدقة، ولما سألوه عن شهادته الجامعية التى حصل عليها، فوجئوا بأنه لم يكمل تعليمه، اكتفى بالحصول على شهادة دبلوم صنايع، بسبب وفاة أبيه، والفقر المدقع الذى كانت تعيش فيه أسرته،عرفوا أن وراءه قصصا وحكايات وأسرارا، يرغبون فى سماعها، فأرجأهم إلى اللقاء التالى.
فى اللقاء التالى زاد عدد الحضور إلى الضعف بسبب حضوره، تحدث عن حكايته، إنه شاب ككل الشباب، عمره واحد وعشرون سنة، مات أبوه بعد أن حصل على الشهادة الإعدادية، فخلَّفه فى القيام ببيع الجرائد والمجلات من خلال كُشك الجرائد الذى كان يمتلكه قبل وفاته، وبالرغم من صعوبة ظروفه الا أنه استطاع الحصول على شهادة دبلوم الصنايع.
بسبب طول الوقت الذى كان يقضيه فى عمله، كان يقرأ كل الجرائد اليومية باستفاضة، يطلع على العديد من المجلات المتخصصة فى مجالات مختلفة، يقرأ كثيرا من الكتب والقصص، للعديد من الأدباء والسياسيين والمفكرين،ربما يستطيع قراءة كتابٍ فى يوم واحد أو فى يومين، فالدقائق عنده لها ثمنها الغالى.
عشق القراءة والثقافة وحب المعرفة عِشق الحبيب لحبيبته، كانت حاجته للعلم والمعرفة كحاجته للطعام والشراب، أخبرهم بأنه يكتب مقالات فى صحف ومجلات مختلفة ولكن بتوقيع ( ف. ع )، أى فهد عبد الحميد، ولما تغيرت الأوضاع فى مدينته التى تقع جنوب البلاد إلى الأسوأ، قرر أن ينقل نشاطه إلى مدينة أكبر ويشترى هذه المكتبة.
فوجىء فهد بأحد الحضور اغرورقت عيناه متاثراً بحديثه الشيق، أقسم عليه ألا يرفض طلبه، وأن يحقق أمنيته، كان الطلب هو أن يقوم باستكمال تعليمه، حبذا أن يكون فى مجال الصحافة، انضم جميع الحضور لطلب هذا الشخص.
وعدوه بأنهم سوف يدعمونه مادياًومعنوياً، رد عليهم بقوله : أما عن الدعم المادى فأنا أصبحت والحمد لله من الميسورين،، وأما عن الدعم المعنوى فأنا فى حاجة ماسة إليه، مرت بضع سنين كان فهد قد تحصل على شهادة الليسانس من كلية الآداب قسم صحافة بتقدير ممتاز، رفض أن يعمل معيدا بها، مارس موهبته فى الكتابة باسمه الحقيقى، "فهد عبد الحميد"، فكان من أشهر الكُّتاب.

"12"صديقتى التى لا أطيق فراقها

عقب أدائه امتحان الثانوية العامة، تلبيةً لدعوة ابن عمته، انطلق "ضياء" إلى مدينة الإسكندرية، كانت هذه هى الزيارة الأولى له، اتفق معه ابن عمته "خالد "،على أن يمكث فى بيته الكائن فى حى "محرم بك" شهراً كاملا، ثم يعود أدراجه إلى مدينته ليقدم شهادة الثانوية العامة، أمام لجنة التنسيق للقبول بالجامعات، على أمل أن ينجح.
بعد الإستقبال الطيب والترحيب الحار، طلب "ضياء" أن يذهب إلى البحر، بعد أن ينال قسطا من الراحة، فالبرغم من أنه لا يجيد السباحة الا أنه يعشق البحر، كثيرا ما سافر إلى مدنٍ ساحلية عديدة، بوصوله إلى تلك المدينة الساحرة، استشعر أن البحر يناديه، والنسيم فى انتظاره، أمواج البحر ستزداد حركة وعلواً ابتهاجاً بقدومه.
جهز "خالد" حقيبة البحر، حملها على كتفه، وبعد أن خرجا معاً من المنزل، وقبل أن يستقلا السيارة، فاذا ب"خالد" يصيح بصوت عالٍ : نسيتها... انتظر هنا حتى آتى بها، سأله "ضياء" وماذا نسيت؟، لم يُجب "خالد"، الذى عاد سريعا إلى المنزل، ولم يمر من الزمن الا دقائق معدودة، يظهربعداها "خالد" ومعه كاميرا تصوير معلقة حول عنقه، بادره "ضياء" بسؤال : لماذا كل هذا الإهتمام بهذه الكاميرا ؟ وما فائدتها ؟ وخاصة أننا سنذهب إلى البحر للمتعة، لم يرد عليه "خالد " الا بعبارة واحدة : إنها صديقتى التى لا أطيق فراقها.
على شاطىء البحر، نسى "ضياء" الإستمتاع بالبحر ونسائمه، أو بتلاطم الأمواج مع الصخور،لم يفكر فى النزول إلى البحر، لمجرد النزول، جذبته الكاميرا، لم يستطع مقاومة جاذبيتها، يعرف أنها كاميرا للتصوير، ولكنه لم يلمسها فى يومٍ من الأيام، تمنى لو سمح له ابن عمته بتشغيلها، ليلتقط بنفسه صورة، بمجرد وصولهما إلى البحر، قام "خالد" بيشغيل الكاميرا، والتقاط الصور للمناظر التى لفتت نظره.
لم يقدر "ضياء على تحمل موقف المتفرج على "خالد"، وهو يحمل الكاميرا، يلتقط بها الصور لمناظر قريبة أحيانا وبعيدة أحيانا أخرى،اهتز جسده، ارتعشت يداه، تصبب عرقا،أُصيب بالإرتباك، هل يطلب منه أن يريه هذه الكاميرا أم لا ؟، تردد، تلعثم، ثم تماسك من جديد، بادر ابن عمته، أريد أن أعرف كيفية تشغيلها، رد عليه مازحا : وكم تدفع من المال مقابل ذلك ؟، أجابه : أدفع لك ماتريد، بشرط أن تعلمنى التقاط الصور، مثلما تفعل أنت، قال" خالد" : أقسم لك بأنك لن تترك الإسكندرية، الا وأنت تُشغل هذه الكاميرا، وتقوم بالتصوير، وكأنك مصور محترف، كانت هذه الكلمات أسعد ما سمعه منذ وعى الحياة.
"ضياء" صار شغله الشاغل تعلم التصوير الفوتوغرافى، سرعان ما تعلم تشغيل الكاميرا، والتصوير عن بعد وعن قرب، بدأ يعتمد على نفسه فى اختيار المناظر، التى يرغب فى التقاطها، دون توجيه من "خالد"، الذى أعطاه الثقة فى نفسه، ليمارس ويتعلم، وربما يخطىء فيصحح له.
استطاع خلال مدة وجيزة أن يلتقط بنفسه مناظر عديدة، طفل صغير جميل تعلو وجهه البراءة، المبانى العتيقة، العمارت الشاهقة، الشاليهات الفخمة، الشمس تذوب فى البحر قبيل الغروب...، ولما عرض تلك الصور على "خالد"، سُر كثيرا، لم يجد هدية يقدمها له أجمل من الكاميرا التى تعلم عليها، كانت تلك الليلة أسعد ليالى عمره.
لم يتوقف كرم "خالد" عند هذا الحد، بل أتى بكاميرا تصوير فيديو، ليتعلم عليها "ضياء"، الذى طار فرحاً حينما رآها، ساعده على تشغيلها تحت اشرافه، حتى استطاع معرفة أساسيات التعامل مع تلك الكاميرا المتميزة، مر الشهر سريعا، وكأنه يوم واحد، شهر كله متعة وسعادة واستجمام، تعلم مبادىء فن التصوير، فى هذا الشهر أعاد "ضياء" اكتشاف نفسه، بواسطة ابن عمته "خالد"، وهو أهم الفوائد من تلك الرحلة السعيدة.
استقل "ضياء" القطار عائدا إلى مدينته ن يحمل الكاميرا التى صارت صديقته التى لا يطيق فراقها، بعد أسعد رحلة فى حياته، عاد بشخصية جديدة، معتزا بنفسه، لديه القدرة على مواجهة تحديات الحياة، الآن يمكنه أن يفعل شيئا، ولو كان شيئا بسيطا، الآن يمكنه ان يعمل فى مجال التصوير الفوتوغرافى، أو على الأقل فهو فى طريقه لأن يكون مصورا.
رجع بذاكرته إلى أيام الطفولة، لم تكن لديه أية موهبة فى أى مجال، فى حين كان معظم زملائه فى المدرسة، لديهم مواهب فى مجلات الرسم، الخط الجميل، حفظ القرآن الكريم، الإنشاد، وغيرها من المواهب الأخرى، حتى كرة القدم لم يستطع مجاراة زملائه فى ممارستها، تذكر يو م أن لعب معهم حارسا للمرمى، انهزم فريقه 0/10، لم يصد أى ركلة لاسهلة ولا صعبة، أما الآن فلديه موهبة ربما لايمتلكها أى شخص منهم.
ظهرت نتيجة الثانوية العامة، حصل "ضياء" على مجموع خمسة وسبعين فى المئة من المجموع الأصلى، لم يفكر فى التقدم بأوراقه لأى كلية من الكليات، لم يتردد فى اتخاذ القرار المصيرى، اتجه تفكيره فوراً صوب المعهد العالى للسينما - قسم التصوير -.
شرع فى اتخاذ الخطوات الجادة لتنفيذ رغبته، سافر إلى القاهرة لإجتاز دورة تأهيلية فى التصوير"كورس"، فالدراسة ستبدأ عقب شهرين من اعلان النتيجة، ولأن لديه رغبة حقيقية وعزيمة صادقة فقد اجتاز هذه الدورة بتفوق.
أنهى "ضياء" الدراسة بمعهد السينما بتقدير ممتاز، ولأنه من أوائل الخريجين، فقد اختاره أحد مديرى التصوير الكبار فى عالم السينما، كان عليه أن يتواجد باستديو التصوير منذ الصباح الباكر، وحتى الساعة الثامنة مساء، معظم أيام الأسبوع.
ظل "ضياء"عدة سنوات مرتبطا بمدير التصوير الذى اختاره ضمن فريق العمل معه، حتى تمكن من ممارسة التصوير السينمائى بحرفية مميزة.
وأثناء تصوير أحد الأعمال الفنية سقط مدير التصوير على الأرض، تبين أنه فارق الحياة، ومن لحظتها فارق "ضياء" هذا الاستديو، لعدم إنسجامه مع خليفة مدير التصوير السابق.
وبعد مرور أسابيع قليلة اختاره مخرج سينمائى شهير ليكون مديرا للتصوير فيه، جاءته الفرصة ليُثبت وجوده فى عالم السينما كمدير تصوير متميز.
من اليوم الأول فى العمل فى الفيلم، اختلف مع المخرج والمنتج، إنهما يرغبان فى اخراج فيلم مثير للشهوة، يجذب المراهقين، أما "ضياء" فقد رفض الإنصياع لأوامرهما، مهما كلفه ذلك من ثمن، ترك العمل فى الفيلم الذى ربما كان سيجعله من اشهر مديرى التصوير فى البلاد، فضلا عن التضحية بالمقابل المادى الكبير.
اتجه "ضياء"، إلى تصوير الأفلام التسجيلية الهادفة، رغم قلة المقابل المادى الا أنه كان سعيداً بعمله، ضميره لا يؤنبه، رزقه مباركٌ فيه، لا يخجل من أعماله، ثم انتقل إلى العمل فى مجال أكثر انتشاراً، حينما طلبت احدى القنوات الفضائية، ليعمل فيها، للقيام بتصوير اعمال فنية هادفة.
اشتهر "ضياء" فى الوسط الفنى بأنه مدير التصوير المتزمت، قالوا عنه إنه عدو الفن، فى المجلات والبرامج التلفزيونية يسخرون منه ويتهكمون عليه،أحيانا بالتلميح وكثيرا بالتصريح، فى المقابل فإنه لايعيرهم اهتماماً ولا يرد عليهم.
وفى صباح يوم من الأيام، فوجىء ضياء باتصال هاتفى من منتج سينمائى شهير، يطلب منه أن يكون مديرا للتصوير، فى فيلم ضخم عن شخصية وطنية كبيرة، لأنه لم يجد من هو أجدر منه،للقيام بهذه المهمة الثقيلة، بعدها توالت أعماله المتميزة، ومن الطريف أن النقاد المحترمين أطلقوا عليه : إمام المصورين الملتزمين.

"13"
وفاء شاعر
منذ أول يومٍ دخل فيه المدرسة الإبتدائية، لم يحب " خالد " مادةً من مواد التعليم قدر حبه لمادة اللغة العربية،بسبب مارآه فى معلمه من الإخلاص والحماس، نظرات العطف والحب رآها فى عينيه، فاهتم بمذاكرة هذه المادة، أكثر من أى مادةٍ أخرى، حتى أصبح من المتفوقين فيها.
فى المقابل رأى المدرس فى "خالد "النجابة، فعيَّنه رائداً للفصل، حتى وصل الأمر ب" خالد " إلى أن يعتبر معلمه الأب الروحى له، مما دعاه إلى أن يقرأ كُتبا أخرى ليست من المنهج المقرر عليه، و العديد من مجلات الأطفال، طالما خصَّه المدرس بها.
لاحظ جد "خالد"، الذى تولى تربيته، بعد وفاة أبيه،- وهو من خريجى كلية دار العلوم القُدامى – تميز حفيده فى اللغة العربية نُطقاً وكتابة، فتبناه فى البيت بالتوجيه والمتابعة.
حفظ "خالد " على يديه العديد من سور القرآن الكريم، تعلم النحو، تعلم فن الخطابة، حفظ كثيراً من الأبيات الشعرية، شجعه على تأليف بعض الأبيات الشعرية.
فى المرحلة الإبتدائية، أطلق الأساتذة على "خالد " : " الشاعر الصغير"، تعلم إلقاء القصائد الشعرية أمام الأقارب وأصدقاء الأسرة، فاكتسب جُرأةً فى الصغر، انتفع بها فى الكِبَر.
فى بداية المرحلة الإعدادية، شرع الجد فى إعداد "خالد " ليكون شاعراً بمعنى الكلمة، أثناء الدراسة يشارك " خالد " فى إعداد فقرات الإذاعة المدرسية، وفى أداء بعضها، اختبار شهرى من الجد للإطمئنان على مستواه، يستعد بجدية، ليشارك فى المسابقات الشعرية والأدبية على مستوى المدرسة، وعلى مستوى المحافظة، وعلى مستوى الدولة، طالما حصد الجوائز والمكافأت لحصوله على المراكز الأولى.
فى الإجازة الصيفية الوضع كان مختلفاً، كان "خالد" يستشعر أنه سيدخل معسكراً تحت إشراف جده، الذى لا يرضى بغير الشعر طريقا لحفيده، دراسات مبسطة فى البلاغة، وعلم العَروض،دراسات عن الشعر وكبار الشعراء، حضور ندوات شعرية تُقام فى المدارس، متابعة حفظ المطلوب من القصائد الشعرية.
تعلم " خالد "فن إلقاء الشعر، على أيدى شعراء متميزين، وضع الجد قدمى حفيده على أول طريق المجد، فى عالم الشعر والأدب، ولما أنهى "خالد " المرحلة الإعدادية، توفى الله الجد.
بموت جده، فقد " خالد " العطف والحنان،جده كان مصدر إلهامه، وتوجيهه نحو طريق التفوق والإبداع، هل يتوقف عن السير فى هذا الطريق لوفاة جده ؟، واذا كانت الإجابة بلا، فمن سيكون مرشده ؟، طموحه الذى أصبح جزءً لا يتجزأ من وجدانه، يفكر فيه ليلاً ونهاراً،هل سيصبح هذا الطموح كبيتٍ من رمال، بناه طفلٌ على شاطىء البحر، جاءته الأمواج متتالية، فابتلعته، وعادت به إلى البحر ؟.
استمر حزن " خالد " على جده لمدة شهرٍكامل، لم يستطع أن يخطوَ خطوةً واحدة فى طريقه الشعرى،تزاحمت عليه الذكريات، تذكر كلمات جده، التى طالما سمعها منه، كلمات تحض على المثابرة والتحدى، وعدم الإستسلام أو اليأس، فاذا به يقرر، بينه وبين نفسه، أنه لن ييأس رغم صغر سنه، لن يتراجع مع قسوة الظروف التى يمر بها.
بحث عن معلمه القديم فى المرحلة الإبتدائية، ولما وصل إلى بيته فى مدينةٍ غير مدينته، علم أنه سافر إلى خارج البلاد، فعاد أدراجه، والحزن يملأ قلبه، بات ليلته هذه حزيناً، وبعد أن صلى الفجر، قرأ ورده القرآنى.
تذكر أن جده كان قد أخبره، بأن له صديقاً، يقيم فى احدى المدن التى تبعد عن مدينته بمسافة خمسين كيلو متر، يعتبره أخاً له، كان زميلاً له فى كلية دار العلوم، وهو بحرٌ فى الأدب والشعر والبلاغة، ولما ذهب إليه قابله بترحاب لم يتوقعه، وعده بأنه سيقف معه، وكأن جده لم يمت، وفاءً لصديق العمر.
عاد الأمل إلى "خالد " من جديد، بعد أن كاد اليأس أن يقتله، اتفق مع صديق جده على أن يزوره مرةً أسبوعيا، يراجع معه ما اتُفق على انجازه، ثم يعطيه واجبات الأسبوع التالى، استشعر المسئولية، ضاعف من جهده، التزم بكل توجيهات مرشده الجديد.
اعتاد "خالد " على ارتياد المكتبة الكبيرة، التى أشار صديق جده عليه بها، يقرأ فيها أمهات الكتب والمراجع الأدبية الشهيرة، يحضر الندوات الشعرية التى تُقام فى العاصمة، التى مثَّلت له نقلة كبيرة فى حياته الأدبية، اذ تعرف على كبار الأدباء والشعراء فى العاصمة، مما كان له أكبر الأثرعليه.
بمداومته على حضور الندوات الشعرية واللقاءات الأدبية.
لفت "خالد " نظر الأدباء والشعراء، اعتبروه موهبةً فذة، من واجبهم أن يحتضنوها ويراعوها، قدَّم لهم أعماله الشعرية، أُعجبوا بها، نصحوه بالإستمرار فى القراءة، والإهتمام بملاحظاتهم على شعره، حتى يصل إلى القمة.
بعد نجاحه فى الثانوية العامة، التحق بكلية دار العلوم، كما كان يتمنى جده، فالتقت الموهبة مع الدراسة، فوُلد الإبداع، ظهر الديوان الأول، أهداه إلى معلمه فى المرحلة الإبتدائية، أما الثانى فأهداه إلى جده، و أهدى ديوانه الثالث إلى صديق جده.

 "14"التفوق على الأستاذ

بمساعدة والده واصراره، تمكن " أسامة " من حفظ القرآن الكريم، ولم يتجاوز عمره عشر سنين، تميز " أسامة " بسرعة الحفظ، والإنضباط فى المواعيد، والإلتزام فى الحضور.
من حسن حظ "أسامة" أنه تعلم القرآن الكريم على يد ثلاثة مُقرئين، وليس من مُقرىء واحد، تنقل بينهم، كالنحلة تتنقل بين الزهور على اختلاف أنواعها وأشكالها، رغم أنهم كانوا يقيمون فى أماكن بعيدة عن مسكنه.
مات شيخه الأول بعد أن أكمل حفظ خمسة أجزاء، ثم انتقل إلى شيخه الثانى، حفظ على يديه عشرة أجزاء، بعدها سافر فى إعارة خارج البلاد، أما شيخه الثالث فأتم على يديه حفظ القرآن الكريم كاملا، كان يستغل وقت الذهاب والعودة، ماشيا على قدميه مسافة طويلة، فى حفظ السور ومراجعتها، استمر على ذلك سنوات عديدة.
" أسامة " وهبه الله حلاوةً فى الصوت، صوته خاشع،أخَّاذ، قوى، متميز، طالما هز المشاعر والوجدان، يصافح آذان المستمعين وقلوبهم،يُخرج الحروف من مخارجها الصحيحة، يتقن أحكام التلاوة رغم صغر سنه.
تربع "أسامة " على عرش الإذاعة المدرسية، فى كل مراحل التعليم، ولحلاوة صوته وقوة أدائه، طلبوا منه إلقاء الأشعار والأدعيةالدينية، فاكتشفوا فيه مواهب أخرى.
فى حفلة كبرى، حضرها أحد الوزراء، طلبوا منه أن ينشد بعضا من الإبتهالات والتواشح الدينية، فاذا بصوته يعلو بالإبتهال، ينطلق احساسه من الأعماق، كادت نفوسهم تلامس السماء، لم يصدقوا أن هذا الفتى يعيش بين ظهرانيهم، ومن هنا كانت البداية.
بداية " أسامة " فى عالم الإنشاد كانت فارقة بين مرحلتين، السابقة منهما هى الأسهل، أم القادمة فهى الأصعب حتى يصل ليكون منشدا معروفا.
دُعى "أسامة" لحضور حفلة دينية، فوجىء بأحد المنشدين أقل منه فى الموهبة، يُلقى بالكثير من الأشعار الدينية، لم يسمعها من قبل، أيقن أن الموهبة وحدها لاتكفى لتحقيق هدفه المنشود، هنا قرر التوقف لأجل غير مسمى.
رجع " أسامة " لأبيه يعرض عليه الأمر، عسى أن يجد عنده حلاً، فأبوه رجل يُدمن قراءة القرآن الكريم، راهب من رهبان الليل، يصلى والناس نيام، لا يعرف ذلك الا ذويه، رفع من معنوياته، قال له : إن الله معك، مادمت معه،سنأخذ بالأسباب، والتوفيق دائما من عند الله، لى صديق يعمل موظفاً بمقر الإذاعة، سنزوره باذن الله لنستشيره فى الأمر.
ذهب الأب مع ابنه، تقابلا مع الصديق، أرسلهما إلى أحد المنشدين المشاهير، الذى نصحه، بعد أن علم أنه يحفظ القرآن الكريم، بتقوى الله والإعتماد عليه،أوصاه بالشروع فى حفظ الكثير من الأبيات الشعرية للإمام البوصيرى وابن الفارض،وأحمد شوقى، وطلب منه أن يُكثر من قراءة الكثير من مؤلفات المنفلوطى والعقاد.
المنشد الشهير أهدى " أسامة "مجموعة من الشرائط " الكاسيت "، تحتوى على تسجيلات لأئمة التواشيح والإبتهالات الدينية، وعلى رأسهم النقشبندى وطوبار و عمران و الفشنى والبهتيمى،كلفه بالقيام بحفظ هذه التواشيح والإبتهالات، وترديدها مرات عديدة، ولا مانع من محاولة تقليدهم، حتى تصل إلى مرحلة الإتقان فى الأداء.
كان أجمل ما فى هذا اللقاء، أن المنشد الشهير وعده اذا نفذ نصائحه ووصاياه، بأنه سوف يصطحبه معه، ليلتى الخميس والجمعة من كل أسبوع، فى حفلاته التى يحييها فى غالبية المحافظات.
لم يمر وقت طويل، حتى قام " أسامة " بتنفيذ نصائح شيخه، التى اعتبرها أوامر عسكرية، يجب القيام بها فورا،التحق به، صاحبه عدة سنوات، قدم تحت اشرافه العديد من الإبتهالات، حتى أتقن فن الإنشاد على يدى الرجل، لم يبخل عليه بمعلومة أو بنصيحة، فى سبيل ذلك، أنفق " أسامة " كثيرًا من المال،لامكان عنده للهزل أو اللهو، الوقت له ثمنه.
أراد " أسامة " بعد أن اشتهر بين الناس، وذاع صيته، أن يحصل على اجازة ليُعتمد من الإذاعة، رُفض عدة مرات، لحُجج واهية، رغم انه الأجدر، بشهادة المختصين، الا أنه صمم على اجتياز لجنة الإستماع، حتى أُجيز بسبب تغيير رئيس هذه اللجنة الذى كان يحمل فى قلبه حقداً عليه.
بعد إعلان نتيجة الإجتياز من اللجنة،اهتمت وسائل الإعلام المسموعة والمرئية بالمنشد "أسامة"، مقابلات تلفزيونية، حوارات اذاعية، أحاديث صحفية، أسعده هذا الإهتمام، بالرغم من مجئيه متأخراً.
لم يتأخر عن تلبية أى دعوة، الغرض منها الإهتمام بالجوانب الإنسانية، حفلات للأيتام والأرامل، وذوى الإحتياجات الخاصة...،.
إلا أنه لم يلبِ دعوات كثيرة جدا، ومغرية جدا، عن طريق الإيميل، عن طريق الفاكس، اتصالاات هاتفية، بالبريد، بالزيارات والمقابلات الشخصية.
كل هذه الدعوات كانت تأتى من شركات الإنتاج الفنى، تدعوه إلى التعاقد معها وفقًا للشروط التى يرغبها،ليقدم أغانى عاطفية،فى حفلات على المسارح، و"كليبات "، والقيام ببطولة أفلام سينمائية تهتم بالعلاقات الغرامية بين الشباب والفتيات، وكذلك القيام ببطولة مسلسلات اذاعية وتلفزيونية.
أعلن بكل حزم أنه وهب حنجرته لمدح الحبيب " صلى الله عليه وسلم"،وتقديم التواشيح الإبتهالاات الدينية، ولن يرضَ بغير ذلك بديلا، ولو عُرضت عليه كنوز الأرض.

فى يوم من الأيام قابل شيخه الذى علمه فن الإنشاد،قال له : لقد تفوق التلميذ على أستاذه، أصبحت الآن أكثر منى شهرة، وجمهورك أكثر من جمهورى، فلا تنسانى من الدعاء.

ليست هناك تعليقات: