}مواقف رمضانية لا تُنسى}"9"
وما كُتب على المسلمين الصيام كما كُتب
على الذين من قبلهم إلا ليزدادوا تماسكاً وارتباطا ، ليكونوا كما أرادهم الله كالبينيان
المرصوص يشد بعضه بعضاً.
فترى المسلمين نساءً ورجالا صائمين ، أبيضهم
وأسودهم ، غنيهم وفقيرهم ، كلهم صائمون إلا إذا كان لأحدهم عذر ، وهذا العذر يطبق على
الجميع بصورة عامة للجميع وبصورة مجرد دون تمييز لأحد أو استثناء ، ومن ثم فهم يعلمون
أن أكرمهم عند الله أتقاهم ، وأن لا فرق بين عربى وأعجمى إلا بالتقوى ، فترى التماسك
والترابط بين أفراد المجتمع المسلم.
وكذلك فمن حِكم فرض زكاة رمضان على الفقير
وعلى الغنى أن يستشعر الجميع بالمساواة فى الحقوق والواجبات ، هذا من جانب ، ومن جانب
آخر فأموال الأغنياء فيها حق مفروض من الله تعالى للفقراء والمساكين دون أن يمن عليهم
الأغنياء أو يتفاخروا بقيامهم باداءهذه الفريضة ، وهذا مما يعضد ويقوى أواصر الترابط
بين أفراد المجتمع.
يبدأ صيام يوم رمضان من آذان الفجر حتى
آذان المغرب ، فمدة الإمساك عن الطعام والشراب والشهوة هى ذات المدة التى يلتزم بها
الكبير والصغير ، الغنى والفقير ، العالم والأمى ، الإمام والمأموم ، وهكذا يستشعر
الجميع بأنهم أمام الله سواء فلا تجد شخصاً له أن يصوم نصف النهار أو شخصا مكتوبا عليه
أن يمتد صومه حتى آذان العشاء.
وإذا كان الأمر كذلك فلا ينبغى لأفراد مجتمع
ما أن يتركوا الخصومات والنزاعات والخلافات تنهش فى جسد المجتمع دون أن يقوموا بحلها
وإنهائها سريعا ، قبل أن تتطور إلى أمور لا يعلم مداها إلا الله.
ما أكثر البيوت التى تكاد تتهدم بسبب خلافات
زوجية عادية أو تافهة ، ويكاد الطلاق أن يقع لولا فضل الله ثم تدخل المصلحين من الجانبين
ليعيدوا المياه إلى مجاريها بين الزوجين ، وفى سبيل ذلك يضحى المصلحون بأوقاتهم وبجهودهم
وبأموالهم ، ويقومون بإسداء النصح للزوجين أو بالترهيب من مغبة قطع العلاقة الزوجية
والترغيب فى أجر الطرف الذى يتسامح ويتغافر.
وما أكثر الخلافات بين الأخوة والأصدقاء
والأقارب والزملاء ، هذه الخلافات التى ربما تعصف بأمور هائلة تسبب فى انتشار الحقد
والحسد والغل بين أفراد المجتمع بصورة مستمرة ، والتى من الممكن أن تؤدى إلى وقوع جرائم
خطيرة تمزق أواصر المجتمع ، فتجد أحد المصلحين المخلصين قد تدخل وبقوة ليصلح بين الأطراف
المتنازعة ويعيد الأمور إلى نصابها ، وتعود المودة والمحبة إلى قلوب هؤلاء الأفراد.
وكذلك الخلافات والمشاجرات بين العلائلات
والقبائل بعضها مع بعض ، والتى ربما تسبب فى حوادث قتل وجرح وحرق واقتحام البيوت والاعتداء
على الممتلكات والأموال ، فإذا بمجموعة من المصلحين المخلصين يصرخون فى وجوه جميع الأطراف
ليوقفوا تلك النزاعات الدامية ، ويتم التقاضى ومن ثم الإصلاح بين المتخاصمين.
ولذلك فتجد عظمة المصلحين بين الناس فى
تلك المواقف الصعبة والتى لا يخوض فيها إلا شخصيات وهبها الله موهبة الإصلاح بين الناس
، يعصم الله بهم دماء وأموال الناس ويقومون بوأد الفتن التى كانت من الممكن أن تفرق
بين الناس وتذهب بوحدتهم .
ولذلك فإن عبادة الإصلاح بين الناس من أعظم
العبادات يحبها الله ورسوله صلى الله عليه وسلم ، الذى اعتبرها أفضل من درجة الصيام
والصدقة والصلاة .
إن معدن المصلح معدن ثمين يختلف عن معادن
الناس العاديين ، ولذلك فالمصلح هو ذلك الرجل الذى يبذل من الجهد والمال والوقت ليصلح
بين المتخاصمين ولا يرجو من ذلك العمل إلا ابتغاء وجه الله ، قلبه من أنقى القلوب ،
نفسه تواقة لحب الخير وعمل الخير ، ذو همة عالية لا تفتر ولا تضعف ، دائما يصدع بكلمة
الحق لا يخاف فى الله لومة لائم ، كثيراً ما يتعرض للحرج بسبب قيامه بتلك المهمة الجليلة
، عادةً ما يقدم نصائحه كهدايا لمن ينصحهم ويحسن الظن إذا وجه أحدهم اللوم تجاهه ،
يأخذ العزم على نفسه بألا يرجع من مشواره للإصلاح بين خصمين إلا وهما قد تصالحا ، مهما
كلفه ذلك من جهد جهيد ، لأنه واثق من تأييد الله له فى هذا العمل.
دائما يحرض الإسلام على القيام بالإصلاح
بين الناس وترى عظمة هذا العمل فى قول سيدنا أنس رضي الله عنه ( من أصلح بين اثنين
أعطـاه الله بكل كلمة عتق رقبة). ، وعن أنس ; أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأبي
أيوب : " ألا أدلك على تجارة ؟ " قال : بلى : قال : " تسعى في صلح بين
الناس إذا تفاسدوا ، وتقارب بينهم إذا تباعدوا "
ولذلك فإن الله سبحانه وتعالى قد أباح الكذب
لمن يقوم بالإصلاح بين الناس فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ليس الكذاب
الذي يصلح بين الناس فينمي خيرا - أو يقول خيرا " وقالت أم كلثوم بنت عقبة : لم
أسمعه يرخص في شيء مما يقوله الناس إلا في ثلاث : في الحرب ، والإصلاح بين الناس ،
وحديث الرجل امرأته ، وحديث المرأة زوجها .
ولذا وجب علينا أن يكون صيامنا مقرونا بالعمل
على إصلاح ذات البين حتى يزداد الثواب والأجر من الله سبحانه وتعالى .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق